لقد كان على الرسالة أن تجاهد خصوماً ثلاثة جمعهم عليها دفاع الطفيلي عن وجوده: زهادة الشباب في القراءة وبخاصة ما كان جدّ يامنها؛ وتلك العلة التي جرها عليهم سوء التعليم وفساد الغيش هي سبب ما نشكوه من بطئ الثقافة وضعف الصحافة وقلة الإنتاج. وطغيان الأدب اللاهي على الأذواق الناشئة، فأصاب الأذهان بالكسل العقلي حتى برمت بالدرس وضاقت بالتفكير وعزفت عن الجد. ثم نفور طائفة من الأدباء لأسباب مرضية من هذه اللغة التي تقرأ، ومن هذا الأدب الذي تذوق؛ فهم يجلبون الأدب الأوربي بمعانيه ومراميه ووحيه، ثم يلبسونه طربوشاً أو عمامة ويقولون له تكلم، فيتكلم على الرضى أو على الكره، ولكنك لا تسمع بالطبع إلا عربية كعربية الرومي في البار، أو الإيطالي في المتجر!
قالت الرسالة لهؤلاء: مادمتم تكتبون بالعربية فلا بد من فنها وأدبها؛ وما دمتم تعيشون في الشرق فلا بد من إلهامه وطابعه. أما أن تحاولوا طمس حدود الأرض، ونسخ قوانين الطبيعة، وقطع سلسلة الزمن، فذلك مجهود لا يضعه الناس إلا في قرارة الحمق.
فقالوا إننا ننشر ثقافة العصور المظلمة، ونجدد أساليب البيان القديم! يريدون بالعصور المظلمة عصر الرشيد وأبنه المأمون في آسيا، وعصر الناصر وأبنه الحكم في أوربا، وعصر العزيز بالله وأبنه الحاكم في أفريقيا! وهي العصور الثلاثة التي جلت عن الأرض دياجير القرون فكشفت الأفق للإنسان، وهيأت العقل للعلم، وراضت البربر على الحضارة! وهم في ذلك أيضاً يقلدون الكتاب الأوربيين في نعتهم عصور الجرمان بالظلام، كأنما ظنوا قبائل البربر من جزيرة العرب!!
ثم يريدون بأساليب البيان القديم تلك الأساليب التي تجري على قواعد الفن فلا يشوهها لحن ولا تتعاورها ركاكة. قطعوا أنفسهم عن الموارد الروحية لهذه اللغة فصاغوها من حروف الهجاء، لا من الأعصاب والدماء، ثم آذوا فطرة الإنسان فجعلوا قوة الأسلوب عيباً، وجمال الصياغة نقيصة.
ليس في أسلوب الرسالة ما يشبه القديم إلا في الصحة. إنما هو اختيار اللفظ الجميل القوي للمعنى الجديد القوي ليس غير. أما اطراد النسق، وحلاوة الجرْس، ونبض الحياة في الكلمة، وإشراق الدلالة في اللفظ، وامتزاج الكاتب بالجملة، وبراءة الأسلوب من اللغو، فذلك هو الفن الذي يعيش ما عاش الناس، ويُعجب ما سلمت الفطرة.