للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تلازمه فيه الوحشة والكآبة والحزن!!

كانت ثياب (ذو الحدين) تختلف عن ثياب وهندام التلاميذ، وكان لأمه شغف في إبراز وحيدها بثياب مخملية ليكون بين رفاقه - على حد تعبيرها - كالكوكب بين النجوم، ولعل ولع أمه به وعنايتها بملبسه واهتمامها ببزته هي التي نمت فيه خاصية التأنق والملاحظة والانتقاد، وصيرت لكلامه أداء فريداً ووقعاً خاصاً في النفوس ولكن أنى الخلاص لفتى مثله حسن البزة، صبوح الوجه، لامع الذهن، غريب الأطوار، عريق المحتد، صدوفاً عن المعاشرة، عزوفاً عن مخالطة الناس، أنى له الخلاص من مخالب فتيان تتوثب فيهم غرائز القوة البكر وإبراز قدرتها وسلطانها على الأقران، وتتمطى فيهم الغيرة الآكلة لفقدهم أكثر الصفات والمزايا المتوفرة لهذا الفتى الرفيق؟!!!

ولكن صاحبي كان يتخطى هذه البواعث الشائكة على قنطرة من تبين الفتوة وتعمل الكبرياء واصطناع الترفع عن الاختلاط بتلاميذ في غير ترتيبه! بذلك نمت فيه ملكة العنجهية والتسامي.

كانت ظاهرة الكبرياء عنده دخيلة على طبعه الرضي، غير أنه توسل بها لدرء عوارض طارئة لا شأن له في وجودها، فكان يداريها بالعطف الأخوي، والإحسان الإنساني، والشفقة التي كان يشمل بها كل محتاج من إخوانه التلاميذ، وما أكثر المعوزين في تلك المدرسة التي كانت تضم جميع أبناء العمال في ذلك الحي.

جاءني مرة بثغر باسم ووجهه متهلل متلألئ يقص علي خبر اعتزامه على الالتحاق ببعثة (الآباء البيض) ليتلقى العلم في مدرستهم (الصلاحية) في القدس ويقول: إن الآباء رضوا أن يلحقوه بها، وأنه دفع لهم مبلغاً من المال كان يدخره، وأن رئيس البعثة وعده بأن يصحبه معه وينتزعه من أهله إذا مانعوا، وأنه سيتعلم علوم القساوسة ويعود فيرغم جميع الناس على تقبيل يده باحترام، والاستماع إلى أقواله والإنصات إلى عضاته بخشوع!

لم يكن اهتمامي بالخبر ليوازي فضولي الحافز إلى معرفة العامل الذي جعل صاحبي يطرب للرحيل عن أهله كطرب عصفور في قفص يسقسق ويصفق بجناحيه، وأنت في الحقيقة لا تدري إذا كان طربه للطعام المقدم أو للانطلاق الموموق.

لم يكن الخبر هاماً في ذاته، إنما كانت الأهمية عندي في اكتشاف الدوافع التي جعلت هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>