للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأسباب

وقد راقبت الموت أكثر من مرة، وشهدت كثيرين وهم في سياقه، ثم ماتوا بين يدي، وكان الموت في هذه الحالات كلها على أثر نضوب الحيوية ونفاد القدرة على المقاومة. وكانت إحدى الميتات بسبب النزف، فظل العقل حاضراً لا يغيب ولا تغيم سماؤه، ولا يتعكر صفوه؛ وكان الإحساس بدنو الأجل قوياً، ولاشك أن الرغبة في الحياة كانت عظيمة، والجزع من الفناء كان شديداً، ولكن الجسم لم تكن له قوة تستخدمها الإرادة، فخرج النفس الأخير في سلام ومن غير أن يبدو للناظر أثر للصراع. وبأي شيء يكون الصراع؟؟

وميتة أخرى شهدتها، كان الصراع فيها كأعنف ما يمكن أن يكون، لأن الجسم بوغت بعدوان المرض المنذر، فتنبه فيه كل كامن من قوته، وهبت إرادة الحياة تدفع هذه الغائلة، وكان يخيل إلى وأنا أنظر، كأن إنساناً ألقي به في الماء وهو لا يعرف من السباحة إلا لفظها، وكما يفعل المرء حين يلقي نفسه في الماء ويخشى عليها الغرق، فتراه يضرب بيديه ورجليه بغير حساب أو تفكير ويهز رأسه هزاً عنيفاً، وينفخ ويرغى، كذلك كنت أرى أمي لما أصابتها الذبحة؛ وسكنت الآلام بفضل العلاج يومين، وبدأنا نستبشر، ولكن النكسة جاءت، أو لا أدري ماذا حدث، فجعلت نوبات من الاختناق تعتريها، وبينها في أول الأمر فترات طويلة جعلت تقصر شيئاً فشيئاً حتى صارت دقائق. وكانت أول الأمر تقاوم الاختناق بشدة، وتعالج التنفس بجهد عنيف، يظهر أثره في كل عضلة من عضلات الوجه والعنق، وفي اضطراب الصدر وخفق القلب، وفي دفع اليدين والرجلين؛ وكان همي أن أقوي إرادة الحياة في نفسها وأن أمدها بما يكفي من الأمل والثقة والشجاعة، ولكن كرات الاختناق أوهت قوتها واستنفدت مجهودها، ولم يفارقها الحرص على الحياة، والنفور من الموت، وإنما خذلتها قواها؛ ولم يذهب عقلها ولا ضعف أو كل، ولكن ما خير العقل وما غناؤه وحده؟؟ وبأي شيء يشتد أزره؟ فلما جاءت آخر النوبات كان كل ما وسع الجسم أن يكافح به هذه الغارة أن الشفة السفلى اختلجت مرة أو مرتين، فهمد الجسم وكف القلب عن النبضان وانقطعت الأنفاس

وقد سقت هذه الأمثلة لأقول إن الإنسان لا يستسلم ولا يزهد في الحياة، ولا تفتر رغبته فيها، ولا يضعف كرهه للموت واستهواله للفناء، ولكنه لا يجد مؤازراً من جسمه فييأس؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>