للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غيره يموت، أو يسمع بذلك، يستثني نفسه من هذا المصير وإن كان على يقين جازم من أنه حتم لا رادَّ له ولا حيلة فيه؛ ولعله في ضمير الفؤاد يهنئ نفسه بالنجاة ويشكر الله على أن الموت لم يخطفه هو، وعسى أن يكون الأمل المستمد من غريزة المحافظة على الذات هو الذي يغريه بالتعليق بوهم الاستثناء المستحيل، وهو على كل حال يخفف وقع الخبر، ويجعله محتملا، ويذهب ببواعث الجزع على النفس قياساً على المشهود.

ولكن قدرة المرء على مغالطة نفسه تضعف أمام دبيب الموت إليه على الأيام. ذلك شيء يحسه في نفسه فلا سبيل إلى تجاهله والإغضاء عنه. وكيف يسعه أن يتجاهل اليبس الذي في أعضائه، والتصلب الذي في شرايينه، والفتور الذي يجده، والضعف الذي يعتريه حين يهم بأيسر الأشياء، والعجز عن احتمال ما كان يمر به فلا يعيره لفتة، إلى آخر ذلك؟؟ وكل يوم يمضي به يزيده وهناّ على وهن، ويدنيه من القرار الذي يُلفي نفسه هابطاّ اليه، فلا يبقى سبيل إلى مغالطة النفس. وكل ما يقدر عليه أمله هو أن يرجو أن يُنسئ الله في أجله، على الرغم مما يكابد من ذلة الشيخوخة ومهانة الضعف والحاجة المتفاقمة إلى الإسناد. فهو مضطر أن يوطن نفسه على الموت، وأن يقصر الأمل على طول المهلة، وليس أجدى عليه ولا أفعل في تخفيف وطأة الموت من هذه الرياضة البطيئة. ومن هنا كان موت الفجاءة مزعجاً لنفوس الأحياء، لأن صدمته لها تجيء على غير انتظار. والله أعلم، فما جربَ الموت أحد وعاد إلينا ليقول لنا كيف كان وقعه - هذا طريق لا يحمل المسافر فيه (تذكرة) ذهاب وإياب، كما يقول ويندل هولمز.

إبراهيم عبد القادر المازني

<<  <  ج:
ص:  >  >>