عنها كل آفة ويحميها من كل خطر من الأخلاق والديمقراطية والزهد
يبدو لي أن عمل نيتشه له أثر قوي في بيئة كبيئتنا ولا ريب في ذلك، فإن ما أراه في مظاهرنا الاجتماعية لا يدل على فيض في الحماسة المادية والخلقية. قليل من المفكرين الذين هم في مستواه يعرفون أن يسوقوا الإنسان إلى معرفة نفسه والوقوف إزائها مجرداً؛ وقليل من أصحاب جمهورية الفضيلة من يمزقون - في وضح النهار - هذه الأغشية الرقيقة والأكاذيب الخفيفة التي تستر بها النفس ضعفها وجبنها وذلها وعجزها؛ وقليلون من علماء النفس في وضح وأبان وأحسن البيان عن الحقيقة الذليلة التي ترتدي هذه الأثواب المزركشة: أثواب الشفقة ومحبة القريب والزهد
إن نيتشه كالطبيب الصارم الذي لا تدخل قلبه الشفقة؛ والعلاج الذي يحمله إلى مرضاه، علاج قاس خطر استعماله، ولكنه علاج يخلق العزم والقوة. إنه لا يعزي من يأتيه شاكياً، ولكنه يترك الشاكين تسيل الدماء من جراحهم ليجعلهم أكثر قسوة وأشد احتمالاً للألم. فهو إما أن يشفي مرضاه شفاءً صحيحاً أو يقتلهم؛ قد يخشاه الناس للمرة الأولى ويفرون من مباضعه، ويلقونه باحتراس ووجل! يتساءلون: أليس هذا الإنسان شريراً جلاداً؟ يفرون من طريقه ويختلفون إلى أطباء خفيفة أناملهم، لينة كلماتهم، حلوة علاجاتهم، خالية تعاليمهم من الشدة والصرامة، ولكن نيتشه يلوذ به فريق من المخلصين له ولأنفسهم، يهوون صرامته ويحبون استقامته وخلقه كله. وفي اعتقادي أن هؤلاء لم يكونوا مخدوعين بإعجابهم به وإخلاصهم له، وقد علموا أنه - ليس عن صرامة قلبه ولا معرفته للألم معرفة خاطئة - قد غدا صارماً قاسياً على الإنسانية المتألمة؛ وحياته كلها مشحونة بالحوادث البالغة والمصائب الكبيرة؛ وحظه السيئ الفاجع قضى عليه بأن يكون صادفاً عن الإشفاق على ضعف الإنسانية وفاقتها. إنهم ليقفون بخشوع وجلال إزاء الجبار الذي لم يخضع للذل ولم يلعن الوجود، برغم مرضه العضال. وظل على غبطته ورضاه في الحالة التي كان يصارع فيها الموت والجنون دون أن ينفذ إليه الوهن والضعف، متمماً أنشودته المؤثرة في تمجيد الحياة الفنية الفياضة المخصبة، مناضلاً حتى النهاية - الألم الذي غلب على عقله ولم يستطع أن يقهر إرادته الواعية
لماذا أكرمت نيتشه؟ وما الفائدة التي يجنيها العقل العربي منه؟