رحمة لك أيتها الساقية. . . منذ كم أنت تجرين وتسرعين، أفبلغت غايتك بعد جري القرون، أم قطعك عنها عدو جبار، أم ادركك عجز الشيخوخة وضعف الهرم، فجف ماء حياتك، كما تجف الحياة في عروق الشيخ القحْم، وفروع الشجرة النخرة، وجدر البيت الخاوي؟
وهل كنت تجرين يوماً واحداً لو عرفت أن غايتك الفناء وأنك إنما تسعين إلى أجلك برجلك؟ وهل كان يبني الباني، ويزرع الزارع، ويعمل العامل، لو عرف أن أجله أدنى إليه من أمله، فبينما هو ينتظر إشراق الفجر، إذا احتوته ظلمة القبر، وبينما هو يحلم بالسراب، إذ واراه التراب؟
وهل كان يطمع في الحياة طامع لو عرف أن كل يوم يزيد من حياته إنما ينقص من حياته، فإذا بلغ كمال الحياة فقد صار إلى الموت؟
إن الإنسان يأمل أن يملك الدنيا ويعيش إلى الأبد، وأنت تأملين أن تصيري نهراً ثم تصبحي بحراً، والله يريد أن تتم حكمته في الحياة فيسعى كل ساع إلى الفناء، يدعوه الأجل، ويحدوه الأمل. . . ولا رادّ لما أراده الله!
وهل كنت تذكرين أيتها الساقية أصدقاءك وأحباءك وتحنين إلى ذكراهم، وتبكين عهدهم؟ أم قد أمات حسك تقلب الأيام وغدر الزمان، فأقبلت تجرين، لا تذكرين ماضياً ولا تحفلين حاضراً ولا تنتظرين آتياً؟
وهل تذكرين يوم فرننا إليك من شيخ الكتاب القاسي، وعصاه الطويلة التي كان ينال بها رؤوسنا وهو على سرير ملكه، في هذه الغرفة الضيقة، المثقبة الجدران المسدودة النوافذ، الفاسدة الهواء؟ لقد مللنا البقاء في هذا السجن الرهيب، فشكونا إلى أهلينا فما وجدنا مشكياً فتجاوزنا (البحرة الدفاقة) وتخطينا هذا السياج، ولجأنا إليك فما وجدنا منك إلا الكرم والعطف والإحسان؟ آمنت خوفنا، وبدلتنا بمدرسة الشيخ وعصاه، هذه الدنيا الفسيحة وهذه الحقول التي لا تنتهي، فطابت أنفسنا بجمال الكون، وانجلت أبصارنا بمرأى البساتين، ونظرنا من هنا فإذا قبة النسر ومآذن الأموي تشرف علينا جليلة عظيمة، فاستشعرنا جلال الدين وعظمته، ونظرنا من هناك فإذا قاسيون يطل علينا مشمخراً عالياً، تقوم عليه الدور