أحكامها فحسب بل تميزها أيضاً قائمة المسائل التي تدرس في كل واحد منها، مع طبيعة هذه المسائل. ففي باب الغصب مثلا يتناول مالك بالبحث قبل كل شيء الحالات التي يكون فيها الشيء المغضوب مثلياً، فيحمله هذا على الميل إلى مصلحة الغاصب حتى لا يكون عليه إلا أن يعوض من الشيء المغضوب كمية مماثلة. أما الشافعي فعلى النقيض من ذلك يعنى بالحالات التي يُدخِل فيها الغاضب تعديلا على الشيء المغضوب، فيميل بذلك إلى تحميله التبعة عن كل ضرر قد ينشأ عن ذلك التعديل بحيث يصبح موقعه عند الشافعي أسوأ بكثير مما هو عند مالك. أما مبادئ مذهب الشيباني فنحن عاجزون عن الحكم عليها إلى الآن لانتفاء النصوص. وطبع هذه النصوص لازم أيضاً باعتبار أنها المبدأ للبحث عن تطور الأحكام داخل المذهب الحنفي، والقاعدة العامة هي أن المسائل التي قررتها الكتب السابقة تنضم صراحة أو على الأقل إضماراً إلى الكتب اللاحقة التي تكون من جنسها، فالمسائل التي ترد في كتاب لأول مرة تمثل على وجه الإجمال النتائج التي استحدثتها المباحثات وتطور الأقوال بين هذا الكتاب والكتب التي سبقته. وهذه الطريقة التي تنطبق بطبيعة الحال على كافة المذاهب الفقهية ستسمح لنا بأن نتبع عن كثب تاريخ أحكامها وأقوالها
ونحن إلى الآن لم نذكر المذهب الحنبلي. وكثير من الفقهاء المسلمين وفي جملتهم ابن جرير الطبري قد آخذوا أحمد بن حنبل الذي يعتبره الجمهور مؤسساً لهذا المذهب بأنه محدث فقط وليس بفقيه، ولم يكن من الميسور لنا إلى الآن أن نقرر ألهذا الرأي ما يبرره أم لا. ولكن كتاب المسائل الموجود منه ثلاث روايات لم يطبع منها إلا واحدة طبعة خاصة يصعب الحصول عليها - أقول إن كتاب المسائل هذا الذي يشتمل على أجوبة الإمام أحمد بن حنبل على المسائل التي وجهت إليه في كافة أبواب الفقه كما يشتمل كتاب المدونة الكبرى على أجوبة مالك ابن أنس يسمح لنا بأن نؤكد أن الإمام أحمد نفسه أراد أن يكون فقهياً لأنه كان يعلم مذهباً فقهياً مفصلا لا يقتصر على شرح الأحاديث. ولهذا ينبغي ألا نعتبر مجموع أحاديثه الكبير المشهور بالمسند كأنه مؤلف قائم بذاته فحسب، بل نعتبره أيضاً كتاباً يضع الإمام أحمد فيه الأساس لمذهبه الفقهي. ولا يعني هذا أنه أسس المذهب السني السلفي في الفقه بنفس المعنى الذي أسس الشافعي مذهبه على مقتضاه، لأننا نجد قبله