ولكن لا عليكم مني يا أبنائي، لا تفكروا فيّ ولا تحملوا همّي، بل فكروا دائماً في مبادئ علمتكم إياها، واذكروا في المستقبل أني كنت أستاذكم، وأنكم أحببتموني وأحببتكم، ولا تحقدوا عليّ أني كنت أحياناً أقسو عليكم أو أعاقبكم، فإنما كان ذلك لفائدتكم
وبعد. فقوموا يا أولادي، ودّعوا أباكم الذي لن تلقوه بعد اليوم. . . . . . . . .
وخرج صاحبي من المدرسة، مهدود الجسم، خائر القوى، فألقى عليها النظرة الأخيرة. فرآها من خلال دموعه، مشرقة بهية، كأنها ماسة تلمع في شعاع الشمس، ثم ولّى. . . يفكر تفكيراً مضطرباً
هذه هي حياة المعلم؛ يغرس غصون الحب في قلبه فتمزقه بجذورها، فإذا أزهرت جاءوا فنزعوها من قلبه، فمزقوه مرة ثانية بنزعها: يأخذ المعلم أولاداً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فلا يزال يجهد فيهم، ليفهم طبائعهم، ويألفهم ويحبهم، ويقوّم اعوجاجهم ويصلح فاسدهم، حتى إذا أثمر الحب الفائدة وأتى العطف بالمنفعة وأتى العطف بالمنفعة، جاء ولاة الأمور فقطعوا بجرّة قلم واحدة هذه الأسباب كلها. وفرقوا بنقطة من حبر بين الأب وأولاده، لا لشيء. بل لوشاية سافلة أو مؤامرة دنيئة، أو لإخلاء مكانه ليبوّأه بعض الملتمسين من ذوي الوساطات
وانطلق صاحبنا يهمس في أذن نفسه:
إني أشعر بالانحطاط والضعف، وأحسّ كأنني شمعة قد أنطفأت، لم يكف أنهم أضاعوني والقوني في هذا الطرْق حتى جعلوني أسبح فيه، ثم أغوص إلى أعماقه، بينما يمرح الأدعياء واللصوص بالعيون الصافية ويقطفون وردها وزهرها!
لم يبق لي أمل. . . لقد سقطت في المعركة قبل أن أنال ظفراً، لقد بعت نفسي ومستقبلي وآمالي بتسعة جنيهات في الشهر ثمناً لخبز عيالي. . . أفكان حراماً أن أجدها من غير هذا الطريق، ألم يكن بد من أن أموت لأعيش؟. .
أستغفرك اللهم. فلا اعتراض ولا انتقاد، ولكنما هي شكوى. أفيخسر المرء ماله فيشكو، ويفقد حبيبه فيبكي، ويرى آماله تنهار أمام عينيه ونفسه تذوب وحياته تنضب ومواهبه تذوي ولا يقول شيئاً؟