عقدتها فرنسا مع روسيا البلشفية والتي أثارت سخط خصوم البلشفية حتى بين الفرنسيين أنفسهم، قد تعجل بالمعركة الفاصلة، وقد تغرق أوروبا من جديد في بحار من الدماء
على أنه سواء تغلبت البلشفية في المعركة القادمة، أو انتصرت الفاشية والنازية، فالواقع من الأمر أن كلا الخصمين مشبع بروح الدكتاتورية البالغة في التطرف، وأن الصريع بينهما هي الديمقراطية على كل حال. وقد صار واجبا على الديمقراطيين أن يراجعوا أصول الديمقراطية من جديد، حتى تتمشى مع ما يقتضيه هذا التطور السريع
والآن وقد انتهينا من استعراض الحركتين الفاشية والنازية وانتهينا بذلك من استعراض النهضات القومية في أوروبا منذ العصور الوسطى إلى الآن، نختتم هذه المحاضرة بإيراد بعض النتائج العامة التي نستخلصها من تطور هذه النهضات، ونكتفي منها بثلاث:
النتيجة الأولى: هي أن رابطة الدين التي كانت تسود في العصور الوسطى قد زال سلطانها في العصور الحديثة. وقد انفصلت الكنيسة عن الدولة. ولا نعني بذلك أن سلطان الدين قد زال من القلوب، فإن الإنسانية لا غناء لها عن الدين مهما بلغ حظها من التقدم. ولكن عرش الدين مكانه القلوب والضمائر. أما الروابط الاجتماعية فتتصل بالدين من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الاعتقادي
والنتيجة الثانية هي أن الفرد في أوروبا لم يتحرر إلا بعد أن تحرر المجموع. والديمقراطية التي حررت الفرد لم تقم إلا بعد أن تدعمت الوطنية التي حررت الأمم. وليس في هذه النتيجة العملية خروج على المنطق، ولا انحراف عن طبيعة الأشياء، فالفرد جزء من المجموع، فكيف يكون الجزء حراً إذا كان المجموع مقيداً في ربقة الأسر؟
والنتيجة الثالثة والأخيرة هي أن القوميات في أوروبا عندما تكونت أسرفت في التعصب، وتطرفت في الاستئثار. وتقهقر الجانب الإيجابي من الوطنية، وهو حب الإنسان لوطنه أمام الجانب السلبي وهو بغضه للأوطان الأخرى، وحل التعصب للدين، فكان من ذلك أن هزت الحروب أركان أوروبا، واندلعت نيران التعصب للوطن بعد أن نشأت الوطنية وترعرعت ضيقة هوجاء، وأصبحت لا تتسع للاندماج في روابط الجنس والدم. وتعاني أوروبا الآن من تقطع وشائج القرابة ما بين الأمم الأوروبية ما تقف أمامه عصبة الأمم عاجزة دون حول. فما كان أولى برابطة الوطن أن تتوثق في ظل رابطة الجنس! وما كان