لهذه الساعة المشهودة من تاريخ مصر. ولعلها أشبه بالساعة التي لقّب فيها الرسول (ص) عمر بالفاروق: فقد كان الإسلام قبل عمر ذليلاً فعزّ، وقليلاً فكثر، ومستخفياً فاستعلن. وهذه مصر تُرَنِّقُ على ثراها الأحداث من كل جانب: فالاحتلال الغاصب ينقص ببغيه سيادتها في التملك، وعدتها للدفاع، وحريتها في التصرف؛ والاستعمار الجشع يرصد الأُهَب على حدودها بالعين الخؤون والمنطق المسلح؛ والناس من إلحاح الذل وإفراط الظلم وامتياز الدخيل وقصور القانون في حال من الخمود لا ينفع فيها تذكير ولا تبلغ عليها دعوة؛ وسياسة البلاد تسير في تيه من الأرض فتضطرب لتنقلب وتعود لتبدأ. فلما أراد الله لطريقها أن تتضح، ولقافلتها أن تسير، ألقى بأزمتها في أيدي الشباب؛ والشباب يسيرون بهداية الله، ويجاهدون بقوة الإيمان، ويبلغون بكرم التضحية؛ فأعادوا للأمة حياتها الدستورية خالصة من الخداع والكذب؛ ثم جعل الله على الأمة ملكاً من الشباب تتساير أهواؤهم إلى هواه، وتتلاقى آراؤهم عند رأيه، فيقول لهم في منطق فصيح صريح:(إنني أستقبل حياتي الجديدة بعزم وثاب وإرادة قوية، وأعاهدكم عهداً وثيقاً على أنني سأقف حياتي على العمل لنفعكم، وموالاة السعي في سبيل إسعادكم. لقد رأيت عن كثب حبكم لي، وتعلقكم بي؛ لذلك أرى لزاماً عليّ أن أعلن ما اعتزمته من التضامن معكم في سبيل مصر العزيزة، فإني أومن بأن مجد الملك من مجد شعبه)
ذلك هو ملكنا العظيم بعقيدته السليمة ونفسيته الكريمة وخطته الواضحة، وهذا هو دستورنا القديم أعادته إرادة رشيدة، وأعدته وزارة نزيهة، وجمعته انتخابات حرة؛ وأولئك هم شبابنا الخلص تمردوا على حياة الجمود وعقدوا نيتهم على أن يعيشوا كراماً أو يموتوا أعزّة. فمن أين إذن تُؤتَى النهضة المصرية؟ لا تؤتَى النهضة المصرية إلا من جهتين كانتا في كل زمان ومكان مصدر الشرور للأمة: جهة الفساد في الحاشية، وجهة الخلاف في الزعامة. فأما الفساد في الحاشية - ومعاذ الله أن يكون - فوباله أن يزيف في البلاط حقيقة الأمة بميوله، أو يشوّه في الأمة صورة الحكومة بفضوله. وفي ذلك ما فيه من انفراج الحال بين الشعب وملاذه الأعلى. وأما الخلاف في الزعامة فبلاؤه تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة وتوزيع الجهد وتغليب الشهوة وتمليك الخصم. وما فتَّ في أعضائنا وهدّ من قوانا إلا هذا الخلاف الباغي لا يراد به إلا اقتناص المال أو الجاه أو الحكم. على أن في الحب الأصيل