للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأظهرها حوله كأنها في صلاة تتدفق منها الروحانية العظمى؛

وراع بها العالم السياسي كأنه يقول للدنيا: هذه مصر كما أنشأتُها

وترك لأمته الدرسَ الأخير في هذه الصورة كأنه يقول: هكذا عيشوا

وبكاه الشعبُ من كل عين، حتى لو كان يبكي من نهر ليبس؛

وأصبحت القلوبُ من الحزن كأن كل قلب اجتمعت فيه أمواتُه ذلك اليوم

وبرزت فجأة من النسيان همومٌ وهمومٌ وهموم

ودنت الآخرة حتى لا يذكر الناسُ غيرها، كأن الخلد يتسلم الراحلَ من أيدي الشعب

وحكم الملكُ يومَ موته حكما آخر كما تحكم على الناس جميعاً طبيعةُ الخير

(في ذمة الله يا فؤاد). هذا هو صوتُ الشعب يوم وفاة الملك

صوتُ الفطرة على سجيَّتها مع نفسها؛ لا من سياسةٍ ولا رياء ولا مجاملة

صوت الإيمان على طبيعته مع القلب، لا من غرضٍ ولا تصنّع ولا خديعة

صوت الوطنية على عقيدتها مع الحب، لا من خوفٍ ولا كذب ولا اضطرار

وما عسى أن يقول من فقد أباه العزيز، إلا أن يقول: في ذمة الله يا أبي؟

في ذمة الله ذلك الملكُ الذي كان كالأنبياء محصوراً في واجبه ورسالته

ولم يكن بين فكره وعمله أحلامٌ تفسد الفكر أو تضعف العمل

وكان يقول: (ليس شيئاً يذكر أن يكون المرء أميراً؛ ولكن الشيء الجدير بالذكر أن يكون نافعاً)

ومن أجل ذلك استمر يعمل كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد؛

وتألفت مدةَ حكمه اثنتان وعشرون وزارة، فكانت له على مصر بركةُ اثنين وعشرون ملكا

وكان بنشأته واختباره وعلمه ودينه تصحيحاً لأغلاط من سبقوه في الملك

وبذكائه وبصيرته كان يسوس رعيتين في مصر: إحداهما الحقائق

وكان موفقاً بقدر ما هو قوي، فخدم الشعبَ عقله وحظُّه

تراه دائماً بحكمته وحزمه في عمله للحاضر، ودائماً بصبره وإيمانه في عمله للمستقبل

هو ملك الصبر والإيمان؛ وبهاتين القوتين كم من مرةٍ جعل ما لا يمكن يمكن

وكان من أكبر همه أن يألف العالم اسمَ مصر وأن تعرف ممالكُ الدنيا جَدَّتها

<<  <  ج:
ص:  >  >>