فيشكرها لامرتين على ثقتها به وإظهارها له مكنونات قلبها. ثم تأتي زوجته، وبعد أن تستقبل رينه بشيء من تلك الدالة، وذاك العطف الذي يفقد الغريب بعض حيائه وارتباكه تدعوها إلى العشاء تحت شجرة تداعب أغصانها نسمات البحر محدثة فيها حفيفاً لطيفاً، كان يذكر رينه بحفيف جناحي عصفورتها
ثم يقصدون إلى شاطئ البحر القريب، ويجلسون على مقاعد زورق، ويعودون إلى التحدث، فتقول زوجة لامرتين لرينه: يظهر لي أنك ولوع بالمطالعة، وهي التي جعلتك تتكلمين اللغة الوطنية بهذه البراعة، والتعبير عن عواطفك بمثل هذا الشعر الشجي
فتجيب رينه: نعم يا سيدتي، إن المطالعة من أكبر أسباب غبطتي؛ فبعد اشتغالي النهار كله، وقيامي بواجب الصلاة لله، لا أجد لذة إلا فيها، فمن ينهض باكراً ويخيط حتى المساء يضطر إلى راحة أنامله وتسلية نفسه. إن علاقاتنا مع الجيران لا تتعدى تبادل التحية، لأن النساء ينصرفن إلى إعداد الطعام، أو إرضاع الأطفال؛ والرجال بعضهم يرقد سريعاً لينهض باكراً إلى مواصلة عمله، وبعضهم يصرف وقته وماله وصداقته في الملاهي والمقاهي؛ فماذا تفعل الفتاة المحتشمة مثلي لتمضية الليالي، ولاسيما ليالي الشتاء الطويلة؟ فأما أن تطالع، أو أن تقف جامدة كالصنم تنظر إلى جدران الغرفة، أو إلى ارتفاع دخان الموقد
فتقول لها زوجة لامرتين: ولكن ما هي الكتب التي يمكن مطالعتها؟
فتجيبها رينه: هنا البلية يا سيدتي، نريد المطالعة ولكن لا ندري ماذا نطالع. لقد وضعت الكتب للذين من غير طبقتنا فإذا استثنينا الإنجيلين وكاتب تقليد المسيح لا نجد بين المؤلفين والمنشئين من فكر فينا وجعل قسما من أدبه لنفعنا. من الطبيعي أن يفتكر الإنسان في الذين من طبقته، فواضعو الروايات والمآسي والمهازل، وناظمو القصائد والملحمات، هم من طبقة أعلى من طبقتنا، أو بالحري خرجوا من بيئتنا الخاملة العاملة ودخلوا في بيئات الملوك والأمراء والأشراف والأغنياء والسعداء وغيرهم من الذين يصرفون أوقاتهم عبثاً وأموالهم على الأباطيل
فياقطعها لامرتين: لا لوم عليهم إذا هم نسوا الطبقة التي خرجوا منها، أو تركوها جانباً. وانصرفوا إلى إرضاء أهل البيئة التي دخلوها، فمثلوا أفكارهم، وتكلموا لغتهم، وصوروا