للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(رومانيا) في سنة ١٣٤٦، ولكنه اضطر بعد ذلك بنحو عام إلى العودة إلى فلورنس على أثر موت أبيه ليعنى بشؤون أسرته، واشترى بمعظم ميراثه كتباً لاتينية ويونانية، وانقطع للكتابة والتأليف

ولم يمض قليل على ذلك حتى نكبت إيطاليا وفلورنس ونكب العالم بأسره بتلك الكارثة العظمى التي تعرف في الرواية الغربية بالوباء الأكبر، وفي الرواية الإسلامية باسم مماثل هو (الفناء الكبير)، ذلك أن الفناء الكبير قد اجتاح أمم المشرق والمغرب معاً، وحمل منها إلى القبر عشرات الملايين، وعصف بجميع المجتمعات الزاهرة أيما عصف؛ وبسط على العالم المتمدن كله ريحاً من الرهبة والروع؛ وقد شهد بوكاشيو أحداث الوباء في فلورنس منذ بدئها، وترك لنا عنها وصفاً مروعاً مؤثراً؛ واليك ما يقوله في أصل الوباء وأعراضه:

(أنه في سنة ١٣٤٨ ميلادية حل الوباء الفاتك بمدينة فلورنس الزاهرة، أجمل المدن الإيطالية، بعد أن لبث قبل ذلك بأعوام يعصف بالمشرق، إما لتفاعل الكواكب والأجرام، وإما لغضب الله الحق لما يرتكبه عباده من الخطايا، ولأنه أرسل إليهم صواعق عقابه، فعصف بكتل من البشر لا حصر لها؛ وانتقل الوباء مسرعاً من مكان إلى مكان حتى حل بالغرب يحمل الفزع والروع. . . وكانت أعراضه سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فيظهر أولاً في شكل أورام تصيب الإبط أو أسفل البطن ثم تنتشر في جميع أجزاء الجسم، ثم تتحول إلى بقع سوداء أو ممتقعة تملأ الذراعين والفخذين، ثم سائر أعضاء الجسم؛ وكان المصاب يموت عادة في اليوم الثالث دون حمى ودون مضاعفات أخرى)

واجتاح هذا (الفناء الكبير) أمم الشرق والغرب معاً، فعاث في الأمم الإسلامية أيما عيث؛ وعصف بمجتمعاتها الغنية الآهلة، وسرى إلى جميع الأمم الأوربية، وبسط عليها رهبة الدمار والموت، وحمل من سكانها نحو الثلث في أشهر قلائل؛ وكان فتكه أشد ظهوراً، وأعمق أثراً في مجتمعات إيطاليا، وبخاصة في فلورنس التي كانت تتمتع يومئذ بحضارة زاهرة؛ وهنالك أفنى جيوشاً برمتها، وأهلك عدداً كبيراً من الأمراء والعظماء والقادة، ويقول لنا بوكاشيو إنه استطال هنالك من مارس إلى يونيه سنة ١٣٤٨، وحمل من فلورنس وحدها مائة ألف إنسان)

ويصف لنا بوكاشيو أهوال الوباء ومناظره المروعة وصفاً ضافياً مؤثراً، فيقول: (كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>