يعطي الكون حياً أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لستُ لك، ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة
قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وَهَنَ الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إلا عملُ الإنسان في تسميم ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم؛ فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهدُه كما يتعاهد الرجلُ داره، يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوَّتها ويتقي ضعفها، ويجعلها دائماً باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حسابُ آخرها وإن بعُدَ هذا الآخر، ولا يزال أبداً يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع
قال الجوز (ن): صدقت والله فما أفلح إلا من اغتنم الامكان؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب. وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها (مجلسها البلديُّ) القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها، ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين إذا لم ينفذ من الأول لم يُغن في الآخر
فال الأستاذ (م): وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك (المجلس البلدي)؛ فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة أو مفسدة من زينة أو مطمعة في رفاهية أو دعوة إلى مدنية أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها أو يضعف طبيعتها
والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشبابُ هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها. وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسرُّ الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يُطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يُفزعها الطمع ولا يهولها الإخفاق ولا يتعاظمها الضر، ولا يخفيها الموت. ثم لا تملُّ وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة،