للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الكيميائيون في القرون الوسطى معرفته كي يتمكنوا من تحويل معدن إلى معدن، فهذا التحول الذي وصفناه من كيمياء النفوس في معامل السريرة الخفية

وكما أن امتزاج الخوف والمحبة يشاهد في الأضداد البعداء من قوي مسيطر وضعيف ذليل، إذا تهيأت للأول أسباب القوة من جاه أو مال أو صحة، وخذلت تلك الأسباب الذليل الضعيف وقهرته على أن يعتمد على صاحب المال أو الجاه، فذلك الامتزاج يشاهد أيضاً في نفوس الأصدقاء والأوداء والأحباء والأقرباء. فكم من امرأة تحب زوجها حباً صادقاً أساسه الخوف منه؛ وكم من رجل يحب زوجه حباً صادقاً يخالطه الخوف؛ وكم من قريب يود قريباً، وصديق يود صديقاً وداً تمازجه الرهبة أو الخشية

وإذا تقصينا البحث وجدنا ما هو أعجب من ذلك فقد يمتزج البغض والحب في النفوس، فقد يبلغ العاشق منزلة من العشق تشرف على البغض والمقت لمن يعشق، وقد تتذبذب نفس العاشق بين الحب والبغض أو قد تجمعهما في وقت واحد، فهي تارة تريد الخير لمن تحب، وتارة تريد الشر، وتارة تجمع بين إرادة الخير وإرادة الشر - ويمتزج الإخاء والجفاء في نفوس الأصحاب، ويمتزج الاحترام والاحتقار في نفوس الجلساء والمتعاشرين، كما يمتزج الحب والبغض في نفوس العشاق، أو كما يمتزج الخوف والود في نفوس الضعفاء، فترى الصاحب أو الجليس يبالغ تارة في إخائه لصاحبه وجليسه ومعاشره ويكثر من إكرامه وإجلاله، وتارة يظهر له الجفاء وقلة الاكتراث أو العبث به أو الحط منه، وتارة يجمع في مجلسه بين النقيضين

وكل إنسان يشتكي هذه الصفة في النفوس، ولكل إنسان نصيب منها قل أو كثر وإنما يفطن إلى ما في نفوس الناس ولا يفطن إلى نصيب نفسه منها. وينقسم الناس في تدبر هذه الصفات ثلاثة أقسام: أناس يأبون الرضاء بها فيعتزلون الناس ما استطاعوا إلى العزلة سبيلاً؛ وأناس ينقدونها ويودون لو تكون النفوس على حال واحدة، ولكنهم يعرفون استحالة هذه الودادة فيقنعون بما هو مستطاع من النفس والحياة، وأناس لا يرون إعنات أنفسهم بالسخط على هذه الصفات النفيسة، ومنهم من يرى في تلون الناس وتقلبها وجمعها بين النقيضين رحمة أو تفكهة أو إراحة وترفيهاً، ويمقتون من لا يعاشرهم على هذه الخلال، وربما كان في قولهم شيء من الحق والصواب، وربما كنا نزهد في الحياة لو كانت نفوس

<<  <  ج:
ص:  >  >>