عليها رجال الأمن لنفوه إلى مناجم سيبريا؛ وكان يسهر الليالي، ويكرع جالونات من الشاي، ويخطب رفقاءه، وهم أجدادُ بلا شفةِ اليوم، خطباً هائجة صاخبة جاحدة تنكر وجوه الله حتى لقبوه (لا إله) وجاءت ٍخاتمة السنة فقام إلى دروسه التي تراكمت في الأشهر السابقة فحفظها عن ظهر قلب؛ وكانت له ذاكرة أشبه شيء باسطوانات الفونوغرافات منها بالعقل الإنساني، فجاز الامتحان وظهرت النتيجة فكتب إلى أهله يقول لهم إنه نجح وكان أول الناجحين، وفوق ذلك نال وساماً من ذهب.
وكان متشينيكوف شديد العجلة في أمره نفسه، يود أن يسبق الزمن بها، ويحملها على أشياء قبل أن يأتي أوانها. بعث بالمقالات العلمية وهو لا يزال في عقده الثاني، وكان يكتبها في سرعة الهالع بعد ساعات قليلة من تحرير مجهره على بقة أو خنفساء، ويصبح الصباح فيعود إلى مجهره ليراها مرة أخرى، فإذا به يرى ما لم يكن يراه بالأمس فيسرع بالكتابة إلى رئيس تحرير المجلة يقول له:(أرجو أن لا تنشر مقالة الأمس، فقد وجدت نفسي مخطئاً. وأحياناً كان يرسل المقالة فلا تنشرها المجلة فيثور ويغضب ويصيح: (إن الدنيا تجهل قدري) ويذهب إلى غرفته يتأهب للموت وهو يصفر صفير اليائس الحزين: (لو كنت في صغر الحلزون، لطويت جسمي في صدفي).
بكى وناح لأن أساتذته والناس لم يقدروا مواهبه حق قدرها، ولكن لم يفت ذلك في عضده ولم يستطع أن يضعضع من أمله، فنسي ما كان انتواه من قتل نفسه، ونسى ما كان من ضيقه ووجع رأسه، أنساه إياه حبه المقيم لكل شيء حي. ولكنه أفسد على نفسه الفرصة كلما أمكنته من إجراء بحث علمي قيمٍ متواصل، ذلك بأنه كان دائما يشاجر أساتذته وينازع معلميه. وأخيراً كتب إلى أمه، وكانت تؤمن به وتعطف عليه وتفسده، فقال لها:(إن أكبر همي أجده في دراسة البروتوبلازم في دراسة مادة الجسم الحية. . . ولكن روسيا خالية من العلم والعلماء). وعلى هذا ذهب مسرعاً إلى جامعة فرتزبرج بألمانيا؛ فوجد أنه وصل قبل ابتداء العام الدراسي بستة أسابيع. فأخذ يبحث عن بعض الطلبة الروسيين فوجدهم، ولكنهم لم يرحبوا به لأنه كان يهودياً، فضاقت بنفسه مسالك الحياة، وعاد راجعاً إلى بلده وهو يعتزم الموت. وكان في حقيبته بضعة من الكتب التي أقتناها، وكان من بينها كتاب أصل الأجناس لصاحبه دارون، وكان قد خرج إلى السوق حديثاً، فقرأه، وفي