للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بخيراتها، زاخرة بثروتها الطبيعية، لا زالت بكرا. فسعوا إليها اليهود ليؤدوا رسالتهم فيها؛ وكانت تلك البلاد هي التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أمريكا). وكان العلماء في مصر قدروا إذ ذاك موضع أمريكا تقديراً لا خطأ فيه، بدليل أن المصريين في ترحالهم إلى تلك البلاد لم يضلوا الطريق في الوصول إليها، ولم تبتلعهم صحاري ومجاهل آسيا. كذلك لم يغوهم بلد كالهند لوثيق معرفتهم إن الثروة الطبيعية في أمريكا أوفر منها في الهند وأعظم وكانت المدنية المصرية وصلت إلى حد عرفت فيه مشكلة البطالة، وتكاثر في البلاد عدد العاطلين من العمال والمفكرين. ولم يك ذلك إلا نتاجا لسوء نظام الطبقات السائد إذ ذاك. وخشيت الطبقة الحاكمة أن يتصدى العاطلون لنظام الحكم والنظام الاجتماعي، فأوعزت إلى العلماء بالدعاية لفكرة استغلال أغنى بقاع العالم: أمريكا. وكان الضيق قد حل بالعاطلين من أبناء مصر فتقبلوا الفكرة ونظموا جموعهم وأستقر قرارهم على الرحيل إلى بلاد الأمل والرجاء، وانتظم في سلك هذه الرحلة العمال والفلاحون والعلماء والفنانون - كل بعدته وأداته. ولم تكن هذه الحملة قاصرة على جحافل من رجال أشداء، بل كل الشيوخ والنساء والبنات والبنون ضمن عناصرها. وهذه الحملة أو البعثة الجامعة إلى الدنيا الجديدة كانت أشبه ما تكون بأمة كاملة تحمل في نفسها كل عوامل الحياة ووسائلها. وليس من المحتمل اليوم أن يجود التاريخ ببعثة تماثلها من حيث التكوين أو العظمة أو الغرض. ولا بد لتنظيم هذه الرحلة والسهر على إنجاحها من عقول راجحة قد يصعب علينا اليوم تصور جبروتها وعتوها. وكان على الجحافل التي تنزح يومياً عن أرض النيل - وكلهم من العاطلين - أن تعمل منذ الساعة الأولى من الرحلة على الإنتاج، كل فيما أختص به. ولم يكن أساس حياتهم الجديدة حب الذات، كما كان الحال في مصر، بل كان التفاني في التضحية لخدمة المجموع رائد الكل، فحل تعاون الجماعات محل الاستئثار، وغلبت الأخوة بين الجميع على فوارق الطبقات، وتمتع هؤلاء الرحل بحرية لم يعرفوا لها نظيرا على ضفاف النيل. وكان صدق حبهم وخالص نيتهم في تحقيق حلمهم العظيم يغريهم بالتمادي في التضحية. ولا يمكننا اليوم ونحن في القرن العشرين وطرق المواصلات ميسورة وعديدة وأغلب البلاد مأهولة وعامرة، تقدير المشاق التي عاناها أجدادنا في اجتياز تلك البقاع. ويرجع تذليل كل صعاب انتابتهم إلى الذهن المتقد وقوة الساعد والإيمان بصدق

<<  <  ج:
ص:  >  >>