ولكنها كانت ترجع من كل خيبة وكأنها أول الظافرين وآخرهم! ثم لا يلبث فشلها أن يستحيل سريعاً إلى أمل جميل وعزم وطيد. وفي ذات يوم مرض ابنها مرضاً شديداً فعاونتها على علاجه والسهر عليه رغم إبائها ذلك.
وفي ليلة طاغية شديدة البرد اضطررت إلى تركها بجانب وحيدها العليل. وفي الغد عدت أليها فوجدتها محمرة العينين تنفرج شفتاها عن ابتسامة ساخرة مرة مؤلمة. ترى ماذا حل بهذا الوجه الصبوح المستبشر الذي لم يقو الدهر على قلب ابتسامته أو تشويهها؟ واتجه نظري أولاً إلى الطفل ماذا حل به وأين هو؟ وأخيراً علمت أن طفلها الوحيد الذي كان يربطها بالحياة فارق الحياة أمس مساء. فانهمرت دموعي على رغم ما حاولت من حبسها وأحسست بفراغ حولي وكأنما نار ألهبت رأسي وعيني، فأخذت أبكي وأبكي وظلت هي تكفكف عبراتي وتواسيني وكأني أنا الثكلى المكلومة، أيمكن أن تكون عديمة الإحساس؟ كلا لقد عرفت من حساسيتها الشيء الكثير، ولعل نظرة واحدة إلى ذلك الوجه الجميل تقنع الناظر بالآلام التي تحاول إخفاءها.
كل المصائب التي توالت عليها لم تغبر ابتسامتها، ولكن موت طفلها غير ملامح وجهها كلها. يا ليتها بكت! يا ليتها استطاعت أن تبكي!
وظلت نحو شهر في صراع بين الحزن وبين طبيعتها المرحة الضاحكة، تحاول بكل ما أوتيت من إرادة وعزم أن تتغلب على مصابها فتبتسم كما كانت تبتسم ولكن ابتسامتها أصبحت مبكية مؤلمة تبعث الشفقة والألم بعد أن كانت تبعث المرح والحياة.
لقد لازمت فراشها منذ أيام وكانت متعبة مريضة خائرة الأعصاب فذهبت أعودها يوماً فلم أجد بالدار أحداً، سألت عنها مرتاعة، وأخيراً علمت أنها فارقت الحياة أمس مساءً، سألت ماذا حل بها وأي أمر جديد انتابها؟ فعرفت أنها لم تصب بشيء جديد، وإنما فارقت الحياة وكأنها الشمعة تحترق. فارقتها شيئاً فشيئاً وقد لاقت ربها وعلى فمها ابتسامة رضا وطمأنينة، مرّ إذ ذاك بخاطري قول الشاعر الأمريكي برانيت، ذلك القول الذي كانت تردده أثر كل فشل أو مصاب، والذي ظلت تردده كثيراً في آخر أيامها: (هكذا عش، حتى إذا ما نادى منادي الموت لا تسر إليه كالعبد مسوقاً إلى سجنه بل سر إليه بأيمان ثابت وطمأنينة