قال راوي الخبر: ولما قُضِيتْ الصلاة ماج الناس إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم. ثم قام أحدهم فخطب فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغيّر أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم؛ ثم استنجد واستعان ودعا الموسر والمخِفّ إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى؛ وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم
قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم والصبر في أجسامهم والقناعة في نفوسهم والفضل في سجاياهم، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زُروعاً ومن أنفسهم زروعاً أخرى - فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه، فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع؛ وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حياً بحياة الوقت فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل
قال: وخيل إلي بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تُكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر وألاَّ يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذي هو مع ذلك نصفُ وعظ. . . فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف. . .
قال: وأخرج القروي كيسه فعزَل منه دراهم وقال هذه لطعام أتبلّغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة؛ واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي؛ ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني