للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فلاسفة الإسلام.

لعل أخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلي. فليس تصوفه بالتصوف الروحي البحت الذي يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس وترقى مدارج الكمال، بل هو تصوف نظري يعتمد على الدراسة والتأمل. وطهارة النفس في رأيه لا تقصد عن طريق الجسم والأعمال البدنية فحسب، بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية أولاً وبالذات. هناك فضائل عملية جسيمة ولكنها لا تذكر في شيء بجانب الفضائل العقلية النظرية، ولئن كانت الأعمال الحسنة والخلال الحميدة بعض الخير، فالخير كل الخير في مسألة نتدارسها وحقيقة نكشفها ومعرفة تتهذب بها نفوسنا وتسمو عقولنا. وذلك أن العقل البشري سالكاً سبيل رقيه وتطوره يمر بمراحل متدرجة بعضها فوق بعض. فهو في أول أمره عقل بالقوة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل. وقد يتسع مدى نظره، ويحيط بأغلب الكليات فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الإنسان وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والإلهام. وعلّ في هذا ما يبين كيف اتصل التصوف عند الفارابي بعلم النفس، ونظرية المعرفة.

ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل التصوف الفارابي متين الصلة بالنظريات الفلكية والميتافيزيقية، فان الفارابي يتخيل نظاما فلكياً أساسه أن في كل سماء قوة روحية أو عقلاً مفارقاً يشرف على حركتها ومختلف شؤونها، وآخر هذه القوى وهو العقل العاشر موكل بالسماء الدنيا والعالم الأرضي، فهو نقطة اتصال بين العالمين العلوي والسفلي، وكلما اتسعت معلومات المرء اقترب من العالم العلوي ودنت روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلاً لتقبل الأنوار الإلهية وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر. فبالعلم والعلم وحده يمكننا أن نربط السماوي بالأرضي والإلهي بالبشري والملائكي بالإنساني، وأن نصل إلى أعظم سعادة ممكنة. والمعرفة النظرية الميتافيزيقية هي أسمى غاية ينشدها العقل الإنساني. وإذا ما انتهينا إلى هذه المرتبة تحررت نفوسنا بتاتاً من كل ما هو مادي وجسمي والتحقت بالكائنات العقلية واطمأنت إلى حالها هذه راجية أن تبقى فيها إلى النهاية

هذه هي السعادة التي تنحو نحوها الفلسفة والأخلاق ويوصب إليها النظر والعمل ويسعى

<<  <  ج:
ص:  >  >>