قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل له الإذن وقال: هذا رجل أصبح كالورقة المبصومة بخاتم الدولة فلتكن ما هي كائنة فان لها اعتبارها. ثم تلقاه تلقي الهازل المتهكم وقال له: أهنئك بالنحوي. . . مباركون يا باشا. . . وأقبل عليه وبسط له وجهه
وكان في الباشا دعابة ظريفة يعرف بها، وهو كثير النوادر والمُلَح، وله خصيصة عجيبة فيكون بين يديه كدس من الأوراق التي تعرض عليه ينظرفيها ويقرؤها ويتدبرها، وهو في ذلك يستمع إلى محدثه ويراجعه ويرد عليه، فيصرف الناس والأوراق في وقت واحد، ويستعمل ناحيتين من فكره استعمالاً واحداً لا يخل بالإصابة في شيء من هذه ولا من تلك
ثم قال للباشا الحديث وعينه إلى ما بين يديه: هذه أوراق سرقة ثور عظيم فكم يساوي الثور العظيم الآن. . .؟
قال صاحبنا الذكي الفطن: إذا كان من الثيران التي تعرض في المعارض وتنال المداليات الذهبية فقد يبعد سعره ويغالي به
قال الباشا: نعم نعم. إن من الثيران ثيرانا ينعم عليها بالأوسمة، ولكن هذا الثور الذي سألتك عنه يا باشا هو ثور محراث لا ثور معرض. . .
قال الآخر: إذا كان ثور محراث فمثله كثير فلا يكون ثورا عظيما كما قلت وليست له إلا قيمة مثله
قال الباشا: أراني أخطأت ولعن الله العجلة؛ فهذه أوراق سرقة حمار. . .
قال صاحب السر: وانصرفتُ عنهما بأوراقي وقد رأيت يدَ الباشا مملوءة لصاحبنا بتحيات كلها صفعات. فلم يكن إلا يسير حتى خرج مبتهجاً يميد السرورُ بعطفيه. ثم دعاني الباشا ودفع إليَّ بطاقة بالحاجة التي جاء فيها الرجل ثم قال:
يا ليت لنا في ألقاب الدولة لقب (رحمه الله). . . ينعم به على مثل هذا. أتدري يا بني أن هذه الرتب وهذه الألقاب لم تكن في القديم إلا كوضع علامة الشر على أهل الشر ليهابهمُ الناس حتى كأنما يكتب على أحدهم من لقب بك أو باشا: مُلْحَق بالدولة. . .
وكان الشعب أمياً جاهلاً. لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز. فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجزة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقباً من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتّي. . . .