وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. وإذا تحدث هؤلاء الاخوة الكرام عن مصر أشادوا بذكرها، وأكبروا حضارتها، واعظموا مآثرها على العربية والإسلام، معترفين مغتبطين لا جاحدين ولا كارهين، وعدوا مجدها مجدهم، وعزها عزهم، وفخروا بها كما يفخرون ببلادهم.
وتطلع البلاد العربية إلى مصر، وإنزالها هذه المنزلة أجدى الوسائل إلى التقريب بينها، وتوحيد سننها في التربية والتعليم، والتأليف بين أبنائها. ولم يأل إخواننا جهداً في التودد والتقرب. فماذا يجب على مصر؟ ليست مصر أقل شعوراً بإسلامها وعربيتها، ولا أضعف تقديراً للوشائج التي تحكم بهذه البلاد أواصرها، والمصالح التي توثق بها علائقها، ولكن التاريخ السياسي في العصر الأخير فرق بين هموم مصر وهموم أخواتها، وشغلها بغير الذي شغلوا به؛ فلما أفاقت قليلاً إلى نفسها وموقفها بين الأقطار والأمم لم يلحقها شك فيما بينها وبين أخواتها من أواصر وعرى لا تقوى الحادثات على فصمها. وكلما خف عنها عبء المصائب ازدادت شعوراً وبصراً بمكانتها بين أخواتها وما يجب عليها.
إن على مصر أن ترعى القرابة وتجزي الود بالود؛ وعليها أن تضطلع بالتبعات التي تحملها إياها ثقة البلاد العربية بها، وإقامتها منها الأخ الأكبر. أسمع أحياناً بعض المتحدثين بهذا يقولون إن على مصر أن تستغل هذه الثقة؛ وحاشا لله أن يكون الأمر استغلالاً أو اتجاراً، إنما هو أخوة ومودة، وتبعات وواجبات، وتعاون على الوقوف في معترك الحياة، وتآزر على بلوغ الغاية التي تلتقي عندها مقاصدنا جميعاً. يجب على مصر أن تصلح نفسها وتكمل حضارتها، وتعمل ما يوافق مكانتها، وتسن السنن الصالحة لنفسها وغيرها. يجب عليها أن تشارك في السراء والضراء، ولا تقف بمعزل عن مصائب البلاد العربية ومسراتها، بل تشارك جهد اليد واللسان والقلب. وعليها ألا تألو جهدا في إمداد من يستمدها، وبذل ما تُسأل من معونة في العلم والأدب وغيرهما موحية إلى كل مصري يذهب إلى البلاد العربية أنه يذهب ليؤدي واجباً ويعاون أخا، وأن واجبه حيثما كان من هذه البلاد كواجبه في مصر، وأن مقصده الأول أن يبذل من قواه على قدر طاقته، لا يبغي جزاء ولا شكورا، وإن لم يقصر إخواننا في الجزاء والشكر.
ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا، فلا ريب أن فيها من