الإدارات والصناعات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل.
وقد استفاد العرب من سياسة المساواة والتسامح والعدل التي جروا عليها في إدارة إمبراطوريتهم أن انتشر دينهم ولغتهم فمحقاً الأديان واللغات السابقة في معظم أملاكهم وحلاَّ محلها. ولكن دولتهم جاءت - من جراء أربعة العوامل آنفة الذكر - شعوبية لا عربية صميمة، مستبدة الحكومة، مترفة المجتمع، متنافرة العناصر، منطوية على عناصر كثيرة من عناصر الانحلال.
كانت الظروف التي لابست قيام الإمبراطورية الإنجليزية وانتشار اللغة والأدب الإنجليزيين عكس هذه تماماً: فقد توطدت الدولة الإنجليزية في وطنها الأول توطداً تاماً مدى قرون قبل أن تتجه إلى التوسع الخارجي؛ واقتبس الإنجليز حضارة جيرانهم وثقافتهم حتى صاروا في مقدمة الأمم. فلما راحوا ينشرون سلطانهم لم يخضعوا أمماً تفوقهم مدنية كما كانت حالة العرب مع الفرس، أو حالة الرومان مع الإغريق؛ وتكامل بناء إمبراطوريتهم تدريجياً مع سير الزمن وتطور الحوادث، فلم يُبتلَوْا بسيل مفاجئ من الثروة والترف يزعزع دعائم مجتمعهم ويوهن متانة أخلاقهم، ولم يكونوا بسبيل دعوة دينية أو إنسانية تسوّى بين القاهر والمقهور، بل كانوا وما يزالون يعتبرون رسالتهم إخضاع الآخرين وحكمهم لا مساواتهم بأنفسهم؛ ومن ثم ظلوا متعالين عن الأمم المغلوبة مستأثرين بالكلمة العليا دونها متحاجزين عن أفرادها في المجتمع لا يخالطونهم ولا يزاوجونهم إلا في النَّدر.
لذلك كله قامت دولتهم إنجليزية صميمة، واتسق للنظام الديمقراطي أن يزداد تمكناً مع ازدياد اتساع الدولة، بعكس ما كان في حالتي العرب والرومان؛ وظل للوطن الأول في الإمبراطورية الإنجليزية المقام الأول، وبقيت به حاضرة الحكم التي تجمع سلطتها الأطراف وتؤثر في غيرها من أجزاء الإمبراطورية أضعاف ما تتأثر بالغير.
تلك الظروف التي صاحبت امتداد الإمبراطوريتين واختلاط الأمتين بالعناصر الأجنبية كان لها جميعاً أعظم أثر في تاريخ أدبيهما كما كان لها أثر في تاريخها السياسي، وهو أثر مزدوج يشمل معالجة أبناء الأمم المفتوحة لأدب الأمة الغالبة، كما يشمل اطلاع أبناء هذه الأخيرة على آداب الأمم المقهورة؛ وهنا أيضاً يتباين الأدبان العربي والإنجليزي.