(ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيَرها؛ حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لما حسن حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة).
أما الاستشهاد بهذه العبارة التي سيقت في فضل الكتب على تلك الدعوى العريضة التي يلج الكاتب فيها، والتي يزجيها الهوى وتصوغها العصبية، فاستشهاد ضعيف متهافت كما ترى، فليس فيها إلا ما بقوله كل ناظر في تاريخ العلم من أنه حلقات متصلة مترادفة، يكمل لاحقها سابقها، وينبني آخرها على أولها إنبناء الحاضر على الماضي، في جميع مجالات الحياة وفروع المعرفة، وإن كتب الأوائل هي التي أوجدت هذه الصلة، ومهدت للفكر العربي سبيله.
على أن هذا الاستشهاد غريب من ناحية شخصية الجاحظ، فإنه من المثل القوية التي تبين إلى حد كبير بروز الشخصية العربية في عالم المعرفة، واصطباغها صبغة مستقلة. ويلاحظ قارئ كتابه الحيوان أنه كثيراً ما ينقل عن صاحب المنطق بصيغة التمريض:(وزعم صاحب المنطق) ويعقب عليه أحياناً بعبارات يتبين فيها اعتداده بنفسه، إذ يقول مثلاً:(وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء).
أمثل صاحب هذا الأسلوب الشامخ بنفسه يزج في معرض الاستشهاد على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية، مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية؟!
وبعد، فنرجو ألا يحسب أحد أننا نغض بهذه الكلمة العاجلة، وبهذا التعقيب على صورة من صور الاستدلال من القيمة العلمية لكتاب (تراث الإسلام) الذي نرجو أن نرى فيه صورة من صور البحث الدقيق إن شاء الله.