وحده سبيل السعادة والاتصال بعالم العقول والأرواح. أما ما يذهب إليه المتصوفة من أن الإنسان يستطيع الصعود إلى هذه المرتبة دون علم ولا بحث فادعاء باطل وقول هراء. وعل في هذا الذي قدمنا ما يكفي لإثبات أن ابن رشد اعتنق كزملائه فلاسفة الأندلس الآخرين - وإن يكن أقلهم تصوفاً - نظرية السعادة الفارابية. ومن الغريب أنه لم يدخر وسعاً في نقد الفارابي وابن سينا وتجريحهما، ولا سيما إذا أحس منهما انحرافاً عن سنة أرسطو، ومع ذلك لم ينج من أثرهما، ولم يستطع أن يكوِّن لنفسه مذهباً مستقلاً يخالف مذهبهما، وهو أشد ما يكون تأثراً بهما في المسائل التصوفية. فهو يعلن مثلهما أن العلم سبيل الوصول والسعادة الروحية، وأن أسمى درجات الكمال أن يخترق المرء الحجب ويرى نفسه وجهاً لوجه أمام الحقائق العلوية، ويرفض رفضاً باتاً أن يكون تقشف الصوفية وزهدهم وسيلة التجرد والاتصال؛ فمن الفارابي إلى ابن رشد اعتنق فلاسفة الإسلام بلا استثناء نظرية السعادة. والفارابي وابن سينا يدعمان هذه السعادة رأساً على الدراسة والنظر، مع الاحتفاظ بمكان للعقل العملي والحركات الجسمية؛ وابن باجة وابن طفيل يوسعان الجانب العملي؛ وابن رشد يعود أخيراً فيقرر مع أرسطو أن الخير الأسمى لا يتم إلا بالعلم والتأمل.