مشيئة متشنيكوف حتى يهرع إلى تحقيقها، وهو يعلم حق العلم أي تحقيق يُراد - تحقيق أن هذا الأستاذ الألماني إنما ادعى باطلاً وقال خَرَفا. وكانت تعرض لمتشنيكوف مئات من تجارب دقيقة لا تصبر عليها أصابعه الملولة فيدفع بها إلى بلاجو فستشنسكي أو إلى هوجنشمت أو إلى فجنر أو إلى غرجيفسكي أو إلى سفتشنكو الذي نسيه الناس الآن، أو إذا كان هؤلاء مشغولين إذن فإلى زوجته أُلجا فقد كان يغريها بترك ما هي فيه من رسم الزيت أو تشكيل الصلصال لتقوم ببعض هذه التجارب؛ وكانت جديرة بحل أعقد العُقد. ففي هذا المعمل كان مائة قلب ولكنها دقت معا؛ وكان به مائة رأس ولكن بها فكرة واحدة ولها غاية واحدة: أن تكتب أنشودة شعرية حماسية كبرى عن تلك لكرات الصغيرة المكوّرة الشفّافة الأفاقة التي تدور في دمائنا تتشمم عن مكروبة عادية قاتلة، فإذا وجدتها سبحت نحوها واخترقت جدران الأوعية الدموية إليها حيثما كانت؛ فإذا لقيتها فالحرب العوان بينهما حتى يذهب السوء المنذر عن الجسم أو هي تموت دونه.
وكانت المؤتمرات الطبية الكبرى في تلك الأيام مؤتمرات صاخبة ثائرة ملؤها الحجاج في أمر المكروب وأمر الحصانة؛ وكان متشنيكوف يحضرها دائماً؛ فقُبيل اجتماع أحدها بأسابيع كنت ترى معمله لا يهدأ أبداً من كثرة ما تروح الأقدام وتجيء فيه؛ وكنت تسمع متشنيكوف يصيح برجاله:(هيّا، هيّا، فلا مندوحة عن الإسراع حتى تتم كل التجارب التي نريدها لإثبات حجتي). فيقوم الأعوان المخلصون العابدون باقتصاد ساعتين فساعتين من نومهم كل ليلة في سبيل العمل؛ ويشمّر متشنيكوف نفسه عن ساعديه، ويرفع محقنة بيمينه ويضربه في شتيت الحيوانات وعديدها، يحْضرها له مساعدوه حتى يتصبب العرق من جباههم. فمن صغار أنواع كبيرة من الخنافس إلى الضفادع الخضراء إلى التماسيح، إلى سميدرات مكسيكية عجيبة حتى لجرُّوا الشباك في قيعان البرك يطلبون سمك الفرخ والجدجون نعم يقوم بحّاثنا الفيلسوف المجنون على كل هذه الخلائق الهادئة المتطامنة التي لا تشكو ولا تتضرر فيطلق فيها المكروب من محاقنه وقد لمعت عيناه واحمر وجهه العريض فبات كاللهب المتأجج من خلف لحيته، وقد تلوث شاربه بما تناثر عليه من المكروبات بسبب انفعالاته النفسية وتلويحاته الشعرية. وكان يقول:(أنا إنما أكثر تجاربي هذا التكثير لأزيد نظريتي إثباتاً).