فأنت تَشهده بنظرين: أحدهما هذا الذي تُبصِر به والآخر ذاك الذي تؤمن به.
عبقريٌّ كالجمرة الملتهبة لا تحسبه يعيش بل يحترق ويُحرق؛ ثائرٌ كالزلزلة فهو أبداً يرتجُّ وهو أبداً يَرُجُّ ما حوله؛ صريح كصراحة الرسُل، تلك التي معناها أن الأخلاق تقول كلمتها.
رجلُ الشعب الذي يُحس كلُّ مصري أنه يملك فيه مِلكا من المجد. وقد بلغ في بعض مواقفه مبلغ الشريعة فاستطاع أن يقول للناس: ضعوا هذا المعنى في الحياة، وانزعوا هذا المعنى من الحياة.
قال صاحب السر: وانقضت الزيارة وخرج سعد والباشا إلى يساره، فلما رجع من وداعه قال لي: والله يا بني لكأنما زاد هذا الرجل في ألقاب الدولة لقباً جديداً؛ ثم ضحك وقال: أتدري ما هو هذا اللقب؟ قلت: فما هو يا باشا؟
قال: والله يا بني ما من (باشا) في هذه الدولة يكون إلى جانب سعد إلا وهو يشعر أن رتبته (نصف باشا). . .
هذا رجل قد بلغ من العظمة مبلغاً تصاغر معه الكبير، وتضاءل العظيم، وتقاصر الشامخ؛ نعم وحتى ترك أقواماً من خصومه العظماء كفلان وفلان وإن الواحد منهم ليلوح للشعب من فراغه وضعفِه وتَطَرُّحه كأنه ظلُّ رجلٍ لا رجل.
وقد أصبح قوةً عاملة لا بد من فعلها في كل حيّ تحت هذا الأفق حتى كأن معاني نفسه الكبيرة تنتشر في الهواء على الناس فهو قوة مرسلة لا تُمسك، ماضية لا تُرد، مقدورة لا يحتال لها بحيلة.
هذا وضع إلهي خاص لا يشبه أحد في هذه الأمة كميدان الحرب لا تشبهه الأمكنة الأخرى؛ فقد غامر سعد في الثورة العرابية وخرج منها ولكنها هي لم تخرج منه بل بقيت فيه. بقيت فيه تتعلم القانون والسياسة وتُصلح أغلاطها ثم ظهرت منه في شكلها القانوني الدقيق. وبهذا تراه يغمُر الرجال مهما كانوا أذكياء لأن فيه ما ليس فيهم؛ وتراهم يظهرون إلى جانبه أشياء ثابتة في معانيها، أما هو فتراه من جميع نواحيه يتلاطم كالأمواج العاتية.
وتلك الثورة هي التي تتكلم في فمه أحياناً فتجعل لبعض كلماته قوة كقوة النصر وشهرة كشهرة موقعة حربية مذكورة.