الغاية التي ينتهون إليها جميعاً. لا بد من تفهّم ذلك الدافع القاهر الذي يدفع بالإنسان إلى الشيخوخة فالموت على حين هو أحب ما يكون للعيش وأكثر تشبثاً بالحياة). عندئذ نفض متشنيكوف يده من الفاجوسات وأخذ يبتدع علوماً جديدة يكون من غرضها فهم غاية الحياة وتفسير الموت، وإن أمكن فالإفلات منه؛ وكان أحد هذه العلوم يبحث في الشيخوخة فطلب له اسماً طنّاناً فكان جيرنتولوجيا وأسمى علم الموت تانتولوجيا وما كان أفظعها من علوم. ولكن الآراء التي تضمنتها كانت مما تتفتح به الآمال ويزدهر عليها الرجاء في الأيام. وأجرى متشنيكوف فيها تجاريب، وسجل فيه أموراً كانت بعيدة عن الصحة، قليلة الحظ من الدقة، بحيث يتحرك لها لوفن هوك قَلقَا في مضجعه، ويرغي بستور منها ويزبد في قبره أسفاً على أن كان أَذنَ لهذا الروسي المتبجّح أن يخطو خطوة واحدة في معمله. ومع هذا، ومع كل هذا، فإن طريقة استئصال داء أقبح الأدواء المكروبّية إنما اهتُدي إليها من هذه التجارب غير الدقيقة.
خشي متشنيكوف الموت خشية شديدة، ولكنه استيقن كارها أن الموت حتم لا مفر منه، فانصرف يبحث عن أمل في موت سهل يسير. وكان واسع القراءة شديد النهم فيها، فذكر أنه جاء في قراءاته على تقرير عن سيدتين عجوزين بلغت بهما الشيخوخة حداً رغبتا فيه عن الحياة وتمنتا الموت كما يتمنى أحدنا ويطلب السرير بعد يوم مجهود مكدود. فصاح متشنيكوف:(هذا يدل على أن الإنسان في غريزته ميل إلى الموت كما فيها ميل إلى النوم. فالمرجو الآن أن نبحث عن طريقة تطيل الحياة في صحة وقوة حتى تنكشف فينا هذه الغريزة فنطلب القبر طوعاً).
وأخذ يَذْرع الأرض ويَشْبُرها بحثاً عن أمثال أخرى لهاتين السيدتين المبخوتتين، فزار عجائز في بيوتهن، وجرى وراء شيخات درداوات صمّاوات يمتحنهن تسآلا وهن لا يكدن يسمعن ما يقول. وذهب مرة كل المسافة من باريس إلى روان من أجل شائعة أشاعتها الجرائد ليلقَى سيدة قيل إنها بلغت الستة بعد المائة من عمرها. ولكن للأسف لم يلق فيمن لقي إلا كل امرأة تقوى على الحياة وتعتزّ بها، ولم يجد أحداً يشتهي الموت اشتهاءَه النوم كما اشتهته السيدتان في الأقاصيص التي قرأها، وبرغم هذا صاح قائلاً:(إن في غريزة الخلْق حبَّ الموت واشتهاءَه)، أما الوقائع التي تنقض دعواه فما كانت تقلق باله أبداً.