حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي هذا غداؤك وغداء الصبي قد أعدته سيدتي العامرية هيأته بيدها وهي تعزم عليك لتصيبن منه ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث: لقد قال الناس جميعا وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود وأنت فيما أنت فيه من جد يضني وجهد يهلك لا تقيل ولا تستريح ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء. بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها. وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله. أن فيها لشواء غريضاً وأن فيها للبناً يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام. وأن فيها لماء عذبا ومن يدري؟. لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف، فأنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة وقد امتلأ المكتل فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك. ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا (إليك يا غلام فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وأبنه).
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد أنقطع وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه ثم، يدير عينه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحداً. ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضى والإشفاق:
(هلم يا حار أنظر هل ترى ماء؟ - كلا يا أبت وإنما أرى ذهبا وسلاحا - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج: أن وراء هذا الأمر لسرا. ولكن هلم يا بني فما أرى الا أن الظمأ والجوع قد أجهداك).
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعماً وأحسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة