قال صاحب السر: ورجع الباشا من القاهرة وقد رأى ما رأى من مسامحة النفوس وصحة العهد واجتماع الكلمة وإعداد الشعب للمراس والمعاناة فقال:
تالله لقد أثبت (سعد) للدنيا كلها أن مصر الجبارة متى شاءت بنت الرجال على طريقة الهرم الأكبر في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة. ولقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حربٌ كبيرة فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل عرق السياسة يفور كما يفور العرق المجروح بالدم.
إن هذه الأمة بين شيئين لا ثالث لهما: إما الحزم إلى الآخر وإما الإضاعة. ولا حزم إلا أن يبقى الشعب كما ظهر اليوم طوفاناً حياً مستوي الطبيعة مندفع الحركة غامراً كل ما يعترضه إلى أن يُقضى الأمر ويقول أعداؤنا يا سماء أقلعي.
هكذا يعمل الوطن مع أهله كأنه شخص حي بينهم حين يستوي الجميع في الثقة، ويتآزر الجميع في الأمل، ويشترك الجميع في العطف الروحي، ولا يبقى لجماعة منهم حظ في رغبة غير الرغبة الواحدة للجميع؛ وهكذا يعمل الوطن بأهله حين يعمل مع أهله.
كان أعداؤنا يحسبوننا ذباباً سياسياً لا شأن له إلا بفضلات السياسة ولا عمل له في أزهارها وأثمارها وعطرها وحلواها؛ فأسمعهم الشعب اليوم طنين النحل وأراهم إبر النحل، ليعلموا أن الأزهار والأثمار والعطر والحلوى هي له بالطبيعة.
وكانوا يتخرّصون أن مذهبنا في الحياة لمصلحة المعاش فقط، وأن المصري حاكما أو محكوماً لا يمدُّ آماله الوطنية إلى أبعد من مدة عمره سبعين أو ثمانين سنة، فإذا أطلقوا أيدينا في حاضر الأمة أطلقنا أيديهم في مستقبلها. ومن ثم طمعوا أن يكون الحق الناقص في نفسه حقاً تاماً في أنفسنا لهذه العلة؛ وحسبوا أن السياسي المصري لا يتجرأ أن يقول ما يقوله السياسي الأوربي من أنه لا يخشى الموت ولكنه يخشى العار، فانه إذا مات مات وحده، وإذا جلب العار جلبه على نفسه وعلى أمته وعلى تاريخ أمته بيد أن سعداً قالها؛ وفي مثل هذا قد يكون قول (لا) معركة.
وهاهي ذي معركة اليوم التاريخية، فان الذرات الحية التي تخلق من دمائنا نحن المصريين قد ثارت في هذه الدماء في هذا النهار تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود.