وتنفرد انفراد العلم. كانوا جميعاً في ربقة الحكومة إلا كاملاً، فكان للجماعة الكلمة الحرة والفكرة الطليقة. وقف على السياسة الصريحة قواه، وأيقظ لأطوارها المختلفة رأيه، فكان يناصر الحزب ما دام معارضا، فإذا قبل الحكم تركه إلى غيره، حتى انفرد ذات يوم بالمعارضة. كان اليد اليمنى لياسين في حزب الإخاء الوطني، وياسين أمل البلاد المرجو وزعيمها المنتظر، فلما رآه يقصد الحكم عن طريق الملاينة والمسايرة خالفه ومعه مقاعد البرلمان ووظائف الديون ومزايا السلطة، وخرج مغاضباً إلى الجهاد بالنفس والمال، فزاول المحاماة، وعالج الصحافة، ولقي في سبيل الله ما يلقى المعارضون المتزمتون من الضيق والعنت.
كان لي في هذه (الحلقة) كرسي وثير دائم، يحيطه الإخوان بالعطف ويخصونه بالكرامة؛ وكنت أجد في نفسي من الأنس بهم والطمأنينة إليهم ما لا أجده لجماعة أخرى، فكنت أناقلهم شجون الحديث فأعلم منهم ما لا أقرأ في الصحف ولا أسمع من الناس ولا أرى في الحكومة. كانوا يحملون في نفوسهم آمال العراق الناشئ، وفي رؤوسهم ثورة الشباب الجديد: سياستهم الجماعة قبل الفرد، والعامة قبل الخاصة، والعراق قبل العروبة. ولكن آراءهم كانت في رأيي أشبه بأحلام الفلاسفة تحت رواق المعبد؛ لأنك إذا استثنيت كاملا لا تجد فيهم من يفكر في انقلاب أو يجهر بمعارضة.
تركت العراق وفيصل ونوري وجعفر قد مكنوا لدولته بالمرونة اللبقة والسياسة التجارية التي تعطى لتأخذ؛ وكان شباب البلاد قد سئموا سياسة الأمر الواقع وبرموا بالإدارة المطلقة، فتمنوا حكومة زعيمهم المحبوب ياسين؛ وتسلم ياسين مقاليد الأمور، وانضوى إليه رفيقاه، وآل إليهم سلطان البلاط بالفعل، ونفوذ (دار الاعتماد) بالقانون؛ وسارت السفينة آمنة - كما يرى البعيد - من الألغام والصخور، ثم تفرقت السبل بعدئذ برجال الحلقة.
طخ! طخ! طخ! ثلاث قنابل ألقتها ثلاث طوائر على سراي الحكومة! فروعت الموظفين وأفزعت الآهلين، فأخلوا السراي وأغلقوا المدينة! ماذا؟ الجيش الثائر يحاصر بغداد ويطلب إلى المليك إقالة الوزارة! وبكر صدقي الفاتك الطماح يقترح للوزارة الجديدة حكمت سليمان! وحكمت سليمان يدخل في وزارته الحلقة ما عدا طرفيها. لقد كان صديق الحلقة، وكان في معارضته من طراز (كامل) لا يحفل الثراء ولا يبالي المنصب، حتى رووا أنه