للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرقص، ورابع يفوز بها من الأدب - أي من رص الكلام الفارغ. وليس الكلام الفارغ هو الذي يسري عن النفس، وإنما هو المجهود الذي يبذله المرء في رصف هذا الكلام. ومجهود رصف الكلام هو مجهود بدني ككل مجهود آخر، والمرء يحس بالإعياء والتعب بعده كما يحس بعد لعب الكرة أو غيرها. ولعل الإعياء فيه أشد لقلة الحركة الجسمية، وكثرة ما ينهك من الأعصاب.

ثم ينقلب الأدب صناعة مع طول المزاولة والتدريب، كما يمكن أن ينقلب أي فن آخر؛ ويصبح كما هو الحال والواقع عندي. ومن الناس في الأدب الهاوي أي الأديب الذي لم يتحول على الأيام وبالمزاولة صانعا، فهذا لا يزال يتخذه سلوى وملهاة يزجى بها الفراغ ويريح بها النفس ويرفه عن الأعصاب وإن كان يتعبها من ناحية أخرى كما يتعب المرء نفسه بالتنس والسباحة وغير ذلك: أما من صار مثلي فالأدب عنده صناعة وإن شق عليه أن يعترف بذلك ورأى في الاعتراف به غضاضة أو توهمها على الأصح لطول ما راض نفسه على النظر إلى الأدب كأنه فن سماوي يغري به الذي تميزه الطبيعة وتكتب له عندها الخلود كأن الطبيعة تحابي الناس على نحو ما يحابي الخلق بعضهم بعضاً.

وخرجت من هذا التفكير بأني في الواقع فتحت دكان أدب إذا أحسنت الإعلان عنها ولفت النظر إليها وأجدت عرض ما فيها من البضاعة فأني خليق أن أفوز بالإقبال عليها والطلب لما فيها فيكثر كسبي ويعظم ربحي كما هو الحال في كل تجارة أخرى. ولا فرق بين غيري من الأدباء وبيني إلا على قدر اعتمادهم في رزقهم على الأدب؛ فمن كان معوله مثلي عليه فالأدب عنده صناعة لا شك في ذلك، وإلا فهو رجل يسر الله له رزقه ففي وسعه أن يتسلى بالأدب كما يمكن أن يتسلى باقتناء الديكة أو الثعابين أو السجاجيد أو بالكرة أو التنس أو السياحة أو التوغل في مجاهل الأرض لصيد الأسود والفهود والفيلة إلى آخر ما يمكن أن يلهو به إنسان إذا رزق الوسيلة.

ولما انتهيت من هذا كله سهل علي أن أتلقى الحياة كما يتفق أن تجيء وأن أتقبلها بلا تذمر أو تسخط. وهان علي ما كان يبدو لي عسيراً فيما مضى قبل أن يرتد إلي عقلي الذي ذهب به جنون الأدب، فان لكل فن ضرباً من الجنون، وليس الأديب الذي يتوهم أنه خالد ويطلب أن يعامله الناس على هذا الاعتبار بأقل جنوناً من بائع الفول المدمس الذي يأبى أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>