للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يسعف، وتقديراً لا يدوم، وذكراً لا يتصل، وقبراً لا يعرف!

كان فريد - برد الله ثراه وخلد ذكراه - سليل مجد وربيب نعمة وحليف جاه؛ وكان سبيله في الحياة سبيل كل أمير وكل كبير: يغتصب ثروته من عرق العامل، وقوته من دم الفقير، ومسرته من دمع البائس، وجبروته من ظلم الضعيف؛ ولكنه تنكب طريق المترفين واتبع هادي الفطرة، فدخل به في سواد الشعب وقرّنه في أغلاله وشركه في ذله، فدفعته الجِبِلَّة الحرة إلى أن يتطوع لإنهاضه بجهده. ويتبرع لإنقاذه بماله؛ ثم أتصل برسول الوطنية يومئذ مصطفى كامل، فكان منه مكان أبي بكر من محمد، ومصطفى النحاس من سعد؛ رفع معه ألوية الجهاد على سواعد الشباب الفتيه، ثم خلفه على تكاليف الدعوة من جهد وبذل وتضحية، فاستمر ينفخ فيما يشبه الرماد، ويصيح فيما يقارب الجماد، حتى أشتد عليه أذى المحتلين وكيد المنافقين فهاجر ناجياً بحريته وفكرته؛ ولاذ بالأستانة يبتغي بها متنفساً لآمال مصر، ومضطرباً لعزائم الشباب، فكان في هذه المدينة ذات الأستار والأسرار والحفر قبساً من الحق الساطع الصادع يبعث في قلوب المصريين المهاجرين والطلاب بالضوء والحرارة.

كان يدعو شبابنا الوديع إلى الثقافة الحربية في المعاهد العسكرية التركية استعداداً لليوم الموعود والحدث المنتظر؛ وكانت الحرب الكبرى قد انفجرت دواهيها على العالم يومئذ، فحاول أن يكون لمصر من أعقابها المجهولة مغنم. وكأنما دس عليه أهل الأفك، أو عارضت أطماعه أطماع الترك، فأتمروا به ليحاكموه، ففر خفية إلى برلين؛ وهناك أراده الألمان على أن يكون وسيلة من وسائل الحرب السرية في الشرق، فأبى عليه خلقه الصريح وجوهره الحر أن يكون أداة ليعيش. وتفرق عنه الرفاق إلى موارد الرزق الممكنة، وأنقطع عنه المدد من مصر ومن غير مصر، فعمل عمل الأجير، وعاش عيش الفقير، يتبلغ بما يمسك الرمق، ويكتسي بما يستر الجسم، ويأوي إلى غرفة في بعض السطوح يكايد فيها المرض والفقر والوحدة والغربة، حتى أدركه الموت البائس الخامل وهو في غيابة برلين المقهورة الباكية، ليس فيه إلا فم يهتف للحرية، وقلب يخفق لمصر!

إن فريداً كان مثال الفكرة السليمة والوطنية القويمة والرجولة الكاملة والتضحية المؤمنة. بذل في سبيل الوطن، ما بذل عثمان في سبيل الدين، ثم كانت عاقبة أمره أن مات كما مات

<<  <  ج:
ص:  >  >>