ويجعلها بذلك ألين في يده من ناحية أخرى. وحياة الرجل والمرأة مناوشات مستمرة، ولعلها أشبه شئ بالحرب التي تشنها العصابات المتحصنة في رؤوس الجبال على الجيوش المنظمة. وقدرة الرجل وسطوته معترف بهما، ولكن المرأة لا تقر لهما الإقرار التام ولا تزال تختبئ وتطلق قذيفتها. وخير للرجل وأجلب لراحته أن يدع لها فرصة كافية لإصابة الهدف، فتسكن نفسها وترضى عن حالها، وإلا دفعها إلى التمرد الصريح. ولكنه ينبغي أن يكون له وجود وكرامة، وإلا خسر احترامها له. واحتفاظه بكرامته واستقلاله وحريته لا يكلفه إلا أن توقن هي أنه لا خير في محاولة إخضاعه لها.
وقد زاولت التعليم عشر سنين فما أذكر أني احتجت يوماً أن أعاقب تلميذاً، ولو تمردوا علي لما وسعني شئ فإني واحد وهم كثر، ولو انتفضوا على نظام المدرسة لما استطاعت أن تكرههم عليه، ولكن التلميذ يتوهم البأس والشوكة والسطوة والقوة، ويرهب ما يتوهم، ويطول عهده بذلك فيتقرر في نفسه. وقد كنت وأنت معلم لا أحجم عن مصارحة تلاميذي بأن سلطان المدرس خيالي ولا حقيقة له، وأنهم لو شاءوا لتناولوني وقذفوا بي من النافذة، وقذفوا بالمدرسين جميعاً وبالناظر أيضاً ورائي، وكنت أراهم يبتسمون لما يسمعون مني، ثم يعودون إلى ما ألفت منهم من حسن الإصغاء وشدة الحرص على النظام.
وكبر أبني وصار أطول مني قامة، وأنا الآن كهل وهو شاب، وقد توخيت في تربيته أن أدعه حراً، وأن أجعله يشعر باستقلاله، ومع ذلك لا أراه يجترئ الاجتراء الذي أتوقعه وأريده ويسرني أن أراه منه، لأنه يهاب ذلك السلطان الذي درج على إكباري والإقرار له منذ الصغر. فهو لا يزال طفلاً بالقياس إلي فيما أرى، وأنه لكذلك إذا اعتبرنا التجربة والعلم وما إلى هذا ولكن وهم الأبوة، أو سلطانها، أو لا أدري ماذا، يصده حتى عما لا بأس منه ولا ضير، ولا عيب فيه، ولا خوف من الزجر عليه. وأنا أيضاً كنت طفلاً - كما لا احتاج أن أقول - وكان هذا شأني، لأن للعادة سلطانها.
ولو جرب الناس الشجاعة والأقدام لأدهشتهم أن ما كان يخافونه أو يتقونه أو يتوقعونه، لا وجود له، وأنه لم يكن سوى وهم ليس إلا. وأكرر أني لا أحض على تجاوز الحدود، فليس من حسن الأدب أن يكون المرء جباناً أو ذليلاً، ولا من سوئه أن يكون عارفاً بحقوقه حريصاً عليها وجريئاً في سعيه وصريحاً في قوله، أي مخلصاً في نفسه.