تهكمه في هذا الموقف الدقيق بليغاً ما بعده أَبلغ! سمع عمر ينشده قوله
فأتتها طبة عالمة ... تخلط الجد مراراً باللعب
إن كفى لك رهن بالرضا ... فاقبلي يا هند! قالت: قد وجب
فقال له عتيق: إن الناس يطلبون خليفة مذ قتل عثمان في صفة قوادتك هذه يدير أمورهم فما يجدونه. فماذا يستطيع المحلل أن يزيد على هذا التهكم؟ ويسمع عمر ينشده قوله
حبذا أنت يا بغوم وأسما ... ء وعيص يكننا وخلاء
فقال له: ما أبقيت شيئاً يُتمنى يا أبا الخطاب إلا مِرجلاً يُسخن لكم فيه الماء للغسل. ولا أدري كيف يوفق بين محرم وطاعة إلا التهكم وحده؟
ويسمع عمر ينشده قوله:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجة واعتماراً
فأجابه عتيق: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك! وهكذا تجد أنه يتصدى لعمر لا لأنه يضمر لعمر مقتاً أو كرهاً، ولقد كان لعمر في نفسه منزلة لم ينزلها غيره من شعراء عصره وهو الذي تنبأ بنصف بيت كان في خاطر عمر.
قال عمر: لا تلمها وأنت زينتها لي
فأجاب عتيق: أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال عمر: هو والله!
فقال عتيق: إن شيطانك ورب القبر ربما ألم بي فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجده عندك من طاعة، فيصيب مني وأصيب منه.
ولعمر كما ذكرت في نفسه منزلة خاصة إذ يرى فيه المثل الأعلى للشعر، إليه يسمو الشعراء، وبشعره يقتدي الشعر. ولقد كان يعرف شعراء عصره منزلة عمر عند أبن أبي عتيق. فكان يأتيه من يحاول مناقضته أو مجادلته فيه، وكان الشاعر يأتي بأبيات يتحدى شعر عمر، ولا أعلم شاعراً انثنى سالماً من نقد أبن أبي عتيق، ولا أعلم واحداً استطاع أن يجرح له حكماً أو نقداً.