وكنت أراه في باحة المدرسة فأراه غريباً عن هؤلاء الشباب لا يطيق حراكاً، ولا يحسن لعباً، ولا يدفع عن نفسه اعتداء، وما فيه من الرجولة إلا اسمه وبدلته.
وحاولت إصلاحه، وتعهدته بالنصح والإرشاد، فكنت كمن ينفخ في غير ضرم، فأيست من إصلاحه وكرهته وأبغضته، وجعلت أزوي بصري عنه، وأتناساه وأهمله، ثم افتقدته فلم أجده، ثم علمت أنه قد فارق المدرسة.
ومرت أسابيع، ثم رأيت في مكانه طالباً جديداً من الطلاب الذين يتدربون على الجندية، يلبس الثوب العسكري، وعلى وجهه طابع الرجولة: له شاربان كاملان، وأثر اللحية ظاهر على خديه، والقوة والصرامة بادية في عينيه وملامحه؛ وكان قوي النظرات، صعاقاً جهير الصوت، ذكياً مقبلاً على الدرس، فطناً ألمعياً؛ وكان سريع الحركة، جم النشاط، إذا دعوته أقبل يسير بخطى موزونة، يطأ الأرض وطأ شديداً، وقد نصب قامته ورفع رأسه، فإذا قام بين يدي قرع رجلاً برجل ثم رفع يده بالسلام لا كما يرفعها مثلي أو مثلك، بل كما يرفع يده الجند بالسيف يستله من قرابه، وإذا كلمته أجاب بجرأة وأدب؛ وكنت أراه في ساحة المدرسة، فأراه على اجتهاده وإقباله على العلم، قوياً نشيطاً يصارع الطلاب ويباطحهم، فإذا تمكن من منهم وعلا عليهم عفا عنهم وأبقى عليهم، فكنت أعجب من قوته ونبله، وعلمه وفضله، وأكبر فيه هذه الصفات.
ثم أنني أحببت أن أشجعه وأضرب منه للطلاب مثلاً، فتكلمت وأثنيت، وقلت: كم بين هذا وبين ذاك من فرق. . .!!
فصاح الطلاب: ومن هذا ومن ذاك؟ أنهما شخص واحد!
قلت: ويحكم! فأي معجزة هذه التي بدلته شخص آخر، وأنشأته إنشاء جديداً؟
قالوا: يا أستاذ. . . إنه تدرب أسابيع على الجندية. . . . . .