للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بلاداً وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقى السيف مصلتاً فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرّة، وآنسوا منهم ضعفاً وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أمريكا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شان لها، وليس فيها دين يناوئ ديناً، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنجليز الحاكمين، فأنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أمريكياً واحداً يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية كل مسلم صحيح، يتحسر على الوحدة الإسلامية - ويسعى إليها - ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة القوميات وبدعة الوطنيات، وما أقاموا يبن الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام. ذلك لأن (الفتح الإسلامي) فتح أبدىّ، مستقر في القلوب، لا تقوى فيه بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.

أما في العلم والثقافة؛ فقد كان (الفتح الإسلامي) أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، واعتقها من عبودية الأحجار والأشجار، واليزان والأخشاب، والقس والأشراف. ثم وضع في أيديهما القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء، فما هي إلا أن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد (والمساجد برلمانات المسلمين وجامعاتهم العلمية) يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدّثون، والفقهاء، والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص المؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدّروا بعدُ للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوربا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.

<<  <  ج:
ص:  >  >>