للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يغشى السماء الزرقاء والتي كانت لا تجد وسيلة إلى إهداء سلامها إلى أبينا الجندي إلا القمر!

كانت في الخامس من ربيعها يوم زحف الهواء الأصفر بجنوده وويلاته، يغشى المدينة فيأخذ منها جنوداً، ويدخل البيت فلا يرضى إلا بكبشين أو ثلاثة! أو بكل ما تنفس بحياة. كنا نسمع بصفته فنخشى ريحه، ونرتاع من صوته ونحذر أن نلقاه في مكان؛ ولكنه كان يمشي ولا يرى، يدخل ولا يحسه أحد. فأنشب مخالبه في أخي الصغير. فكانت (يسرى) تخشى الدنو منه، ولكنها كانت تسمع من الجارات يقلن لأمه: إنه سليم لأن يديه لم يزرقا. . خافي من زرقة اليدين فهي علامة الموت) وما مر على الصغير ساعات معدودة حتى سقطت (يسرى) التي كانت تحذر وتبالغ في الحذر على صغرها، لأنها تفهم الموت شيئا مروعا. وكانت أمنا تجاهد فينا لا تخشى أن ينشب المرض مخالبه فيها، وما غلبته إلا بقوة اعتقادها وإيمانها. فحنت على سرير (يسرى) وقد رأت أخاها نجا بمعجزة. . . ولكن يسرى تتأمل في يديها فترى أن الزرقة أحاطت بهما فتقول لأمها: (ها إنني أموت، لأن يداي مزرقتان. .) فتواري الأم وجهها لتذرف دمعتها بعيدة عن عينيها! (إنني لن أشفى يا أماه لأنني لا أرى في جسدي إلا الزرقة.) هاتي لي ثياب العيد - وكان العيد بعد أسبوع - من خزانتي، أريد أن ألبسها كلها. هاتي ردائي الأحمر الذي أرسله إلى والدي من القدس.) لبست ثيابها واغتبطت برغم الألم، ثم أخذها ذهول عميق عقبه سكرة الموت، ولبثت حتى حان وقت وقوعها في الداء، فأسلمت روحها ولما يتنفس الفجر! فبكت أمنا بهدوء يشقه بعض شهقات، تحاول ألا نسمع وكنا نياما، وهي تخشى على أخي النكسة، حتى طلع النهار - وأوصت حفار القبور

تتراءى لي هذه الصفحة الأليمة فأراها واضحة السطور على رغم القدم، وأذكر أنني نهضت فوجدتها كتلة زرقاء هامدة لا تنبض بالحياة، فروعني ذلك ولكني لا أذكر كيف بكيت! فمشينا إلى المقبرة وهي على يدي الحفار لا يمشي خلفها إلا ثلاثة: أمها وجدتها وأنا، أعدو خلفهما حافي القدمين، ولكني أرى من وراء ظهر الحفار رأسها الملتف وقدميها الملتفتين. وكيف يمشي أحد معنا والناس لاهون بموتاهم. فوجدنا على باب المقبرة ولداً لا أهل له يوارونه التراب وكان اللحد ضيقاً، فطووا قدميه بالعنف حتى يتسع اللحد له! فمشينا

<<  <  ج:
ص:  >  >>