يسيل في الترب الماء فينقل أسباب الخصب والنماء إلى البذور المستكنة والأجنة المخبوءة في باطن الأرض، فتصاعد الجواهر المغذية محمولة في مطاويه إلى سوق النبت وأزهاره وأوراقه وبراعمه وتسير في كل مسير، فيأخذ حاجته ونصيبه كفعل الجسم بالدم
ولولا الشتاء لحرمنا الربيع بوشيه وأفوافه وأنواره، والصيف وضلاله الندية، ونسماته الرخية وغلاله الوفية، والخريف وما أنضج من ثمر شهي وفاكهة روية
وللشتاء جماله الرائع القوى: ففيه الغيوم تأخذ كل شكل وتلون كل لون وتسير متلاحقة مطردة، تارة مسرعة وأخرى وئيدة، تشق عباب الجو كالسفين المثقلة. وهي تجتمع في الجو لتفترق، وتفترق لتتجمع، فهي حيناً جميعة وهي حينا الشمل شتيت. وآنا هي مسفة حتى لتدخل من النوافذ وتتطفل على الناس في مخادعهم وأسرتهم، وآونة تسمو وتشيل في كبرياء وأنفة حتى لتكاد تحس بأنها تبغي إلى الشمس سبيلا.
والغيم رمز الأمل القوي والعزم الفتي. فهو أبداً متجدد وهو أبداً يسير، وأبداً يستهدف المرامي البعيدة والآفاق القصية، ولن يصده عنها سهل ولا وعر. وهو كلما وصل أفقاً وبلغ غاية استهدف أفقاً آخر جديداً إلى أن يفنى كفناء الأمل بفناء العمر الذي يضع الحدود ويقيم السدود للآمال والأماني الإنسانية.
وفي الشتاء السيل المنزع والموج المصطفق والنهر الزاخر، وفيه الثلج يكسو الأرض حلة نقية من أديم الشمس هي لولا برودها. وفيه الجليد كالثريات المدلاة حيناً، وحيناً كصفحة السماء، في الزرقة والاستواء، وحيناً آخر تراه. فتخاله هشيماً من البلور النقي الصفيق. وفيه الندى مسلوكا عقوداً من اللؤلؤ في خيوط الزرع وتباشير النبت. وفيه الضباب يضيق الأفق ويقصر أمد الأبصار فترة، فيكون للأبصار كالحمية للأجسام يعطيها فرصة للاستجمام من ألم النظر البعيد! وفي الشتاء البروق الخواطف والرعود القواصف والرياح العواصف. وكل هذا فيه جمال القوة وجمال الروعة، وهما كجمال الهدوء والاعتدال لا زمان لرياضة العواطف وحياة الشعور. وإن يكن في فصول العام ما يرينا عظمة الخالق وجبروته ففصل الأمطار هو أول هذه الفصول. ولا يذكر الناس الله ويخشعون أمام سطوته خشوعاً صادقاً إلا في فصل الشتاء حينما يعود إلى الأذهان ذكر الطوفان الذي أغرق قوم نوح، وحينما يشتد قصف الرعد وهزيمه فتزلزل الأرض زلزالها، وتوشك أن تخرج أثقالها كيوم الحشر.