السفينة وتفرقت الأمواج بالألواح، فلتصارع القضاء هذه السفينة التي انقلبت خيالاً، بل لم يبق منها الخيال! لماذا أكافح أنا في هذا البحر؟ قد اعتصمت بلوحين تعسين، وما بقاؤهما في مصارعة جبال من الموج؟ والسماء تحجبها ظلمات من السحب متراكمة: ويجثم على الفضاء اشد الليالي حلكا وهولاً، فأكوام الظلام عن يميني وشمالي وأمامي وخلفي. لا أعرف المكان ولا الغاية ولا الجهة ولا الوجهة، أضطرب يائساً وأدور التمس الفروج فلا أظفر بها، فأراني مسكينا يدفع إلى القبر حياً! حينا تقذفني الأمواج الثائرة! وحينا تهبط بي هوة جهنمية يرعد بها الفضاء! وحينا تنشق السحب عن البرق الخاطف يمزق أحشاء الظلام، فاذا مرأى هائل لا يذر للحياة الرجاء! أقول مرة:(إن القضاء لا يصارع. فان لم يكن من الأجل بُد فما تمسكي بهذين اللوحين؟ حسبي جلاداً وكفاحاً!) وأقول أخرى: (كلا! لا أستسلم! لأصدم برأسي الصخرة ولا أصدم به الانتحار!) ثم أمضي طافياً راسباً.
- ألم أقل الآن أيها الأمير! أن الذي يتحكم في نفسك دم الأنبياء؟
أجل، أطفو وأرسب وأخالني لا أتقدم، بهذين اللوحين اللذين سميتهما جناحين! بهذين اللوحين وهما البقية من أنقاض شبابي المهدَّم إن تكن له بقية!
- أما كنا نريد أن نشهد الغروب منذ حين؟ واأسفاه قد ذهبت حتى حمرة الشفق! وجثم على الآفاق اليتيمة حزن المساء فانقلبت صدراً حزيناً. ألا تراها؟
- هذه (الآفاق اليتيمة) تمسح عليها الآن يد الشفق؛ فاذا انطفأ الشفق مسحت عليها أيدي النجوم. واما (الصدر الحزين) فان غده مشمس. ولكن آفاق ليلي ليس لها من هذه القبة ضوء ولا صدى، وانما حظها هذا الظلام الصامت، هذا الظلام السرمدي! كلما هبطت إلى ساحة قلبي أخذتني الرعدة والوجل: أرى في كل خطوة أثر غروب. نعم أثر غروب، ولكنه عميق كالعدم! فإنما موعد شموسي الغاربة يوم المحشر!
- ولكن ما هذا الحزن وما هذه الدمعة على وجهك؟ لا تختمي بتعذيب مسافرك أيتها الرفيقة الجميلة! يعلم الله لو أن قلباً قدَّ من صخر ما احتمل انهمار هذه الشآبيب الغائمة في عينيك! لا! لا! إنه ليحرقني أن تحسي آلامي. فدعيني أبكي وتنحي عني! قد قاسيت مصائب الدنيا جميعاً، ولكن دعيني أمضي دون أن أرى هذه الدموع!