لم اكتب مذ عرفت أناملي قبض القلم وتحريكه، ولم تنطق شفتاي مذ انفرجتا للنطق، ولم يخفق قلبي، ولم يجش وجداني وتنشرح جوانحي، منذ أن خرجت إلى الدنيا، لأمر من الأمور هو أسمى وأرفع واشرف من الغرض الذي أرمي إليه بموضوع اليوم)
ثم أنفذ إلى الختام وأنصت إليه ماذا يقول قبيل أن يضع القلم:(وإني أختم هذا الكتاب مترسماً أثر جان في دعوتها وحياتها وصفاتها، وكلي أمل خالص أن تبعث قراءة قصتها في قلوب القارئين نور الأيمان الصادق ونشوة الوطنية الحقة. . . إن ما حققته جان في مقدورنا أن نحققه، إذا ما ارتفعت بنا، كما ارتفعت بها هي من قبل، أجنحة الوطنية والدين. . . أيتها الفتاة المنقطعة النظير! انفخي فينا من روحك، وبثي فينا من حماستك، لكي نحيا حياتنا ونموت في سبيل الله والوطن!!)
وإذا أنت مضيت بين تلك الفاتحة وهذه الخاتمة، لم تقرأ أسطراً كالأسطر، بل أحسست في الكلم حرارة وقوة وحياة، فهو ثائر حيناً شاعر حيناً، إذا جالت جان دارك في أجنادها زأر القلم في يده زئيراً، وإذا جلجلت جان دارك في أصفادها صرّ القلم من الأنين صريراً. وهكذا صور تتلوها صور، أبدعها صناع فسواها، وألهبها من شعوره فأذكاها. حتى لتقرأ الكتاب وكأنما تخوض في أتون مستعر، أو كأنك تنصت إلى صوت من السماء يهتف بك: تلك جان دارك في فرنساها، وهأنت ذا في مصرك، فماذا أنت صانع ليذكو شعورك الخابي، وينهض بلدك الكابي؟! وهذا النداء في ذلك الحين ما كان ابلغه من نداء حيث كادت تذهل أنفس عن الطموح إلى السماء، فانحرفت إلى الأرض راضية من الغنيمة بالحب والماء!
لم أكد أفرغ من قراءة الكتاب عندئذ حتى حملت قلمي على وهنه وعثاره. ودعوت للكتاب (في الرسالة) لأني آمنت أن الدعوة له صيحة وطنية واجبة، وكلما ازددت للكتاب قراءة ازددت يقيناً بما قلته إذ ذاك من أن غانماً (اخرج بكتابه للناس درة من أثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من أسطع ما طوى الدهر من صفحات، ومن إنه بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً سامياً للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك). وما أزال عند كلمتي التي ختمت بها مقالي من أن غانماً (قد وفق في التصوير توفيقاً بلغ حد الكمال، وأن ليس هذا الكتاب واحداً من الكتب يتلى ثم