إنه لا يبحث ولا يناقش ولا يبرهن، ولكنه يبتدع ويخترع. فهو لا يقنعنا، ولكنه يستهوينا ويفتننا كما تفتننا المناظر الطبيعية الجميلة واصطفاق الأشجار في سكون الغابة وخرير الماء في الغدير، أي أن الشاعر يغزونا دون أن نستطيع الدفاع عن أنفسنا وصد غارته عنا. وهو بعبقريته يجعلنا عاجزين عن أن نحذر سلطانه، وفرض علينا أريج أزهاره وظلال غاباته والتحليق في أفقه، فنحن في الواقع سجناء سحره، وأين نجد ملجأ للخلاص من الصور والأخيلة التي يطبعها فينا؟ أنلجأ إلى شاعر آخر؟ كلا لأن هذا يكون تعباً ضائعاً لا طائل تحته. فكل شاعر منهم له ميدان حر مستقل خالص، وليس من المعقول أن يفند الإنسان ملحمة بأخرى ولا درامة بأخرى ولا نشيداً بأغنية. ومن هنا نرى الخير أو الشر الذي يستطيع الشاعر عمله. فهو يستطيع أن يغرس فينا بذور البطولة أو جراثيم الجبن؛ وفي وسعه أن يقودنا إلى الخير أو يدفعنا إلى الشر على الرغم منا
والشاعر الكبير الجدير بهذا اللقب هو الذي يشعر بالرحمة العميقة، ويحتقر المتاع المادي، ويستعذب الآلام في سبيل المجد المستقبل. ويلهمنا حب الحياة ويحثنا على إعزاز الإرادة وقهر الهوى، ويدفعنا إلى ضروب التضحية المجيدة، أي يدفعنا إلى البطولة مهما اختلفت البلاد والجنس والذين والفلسفة. وهذه صفات مشتركة بين الشاعر والبطل
وكلامنا هنا عن الشاعر العبقري؛ أما الشاعر الذي يعوزه الابتكار والأسلوب والعبقرية فلا قيمة له ولا أثر يخشى منه. ومثل هذا ربما يحصل على نجاح وقتي، ولكن شهرته لا تطول ونفوذه لا يمتد ولا يثمر
والشاعر العبقري نوعان: الأول هو الذي أوتي المقدرة على استهواء الناس بخصوبة ذهنه ورقة خياله وقوة ألفاظه وإحكام نسجه، ثم يستسلم فيما يكتب لضعف الهوى ويتغنى بالحياة السهلة الرخوة ويندفع في الملذات الحقيرة المبتذلة ويؤثر بهذا فيمن يسحرهم ويدعوهم إلى الضعف والجبن والأثرة والاشتهاء والشراهة. والثاني هو الذي يحملنا نحو مثل أعلى من القوة والنور والبطولة ولا يورطنا في اضطراب الذهن ورعشة الأعصاب والحواس