وارتمى هنري بين يدي مربيه يضمه إلى صدره قبل أن يقتحم المخاطرة الكبرى، فتمازج دمعا الفتى والشيخ وكل منهما موقن بأن لا لقاء بعد هذا الوداع
وفي تلك اللحظة شق الصفوف فارس آت من باريس، ترجل عن فرسه وقد علاه الغبار وأضناه التعب وتقدم إلى القائد الشيخ مقدماً له رزمة رسائل مختومة بالشمع الأحمر حاملة عنوان هنري بأحرف منمقة، ولم يكد يفض القائد الختم ووقعت أبصاره على السطور حتى جمد الدم في عروقه وارتسمت على وجهه أمارات حزن عميق وحدق في ربيبه ملياً وقد جفت دموعه فجأة بين جفنيه
وكانت الرسائل من عقيلة القائد الشيخ موجهة إلى هنري. في كل كلمة منها شرارة شوق وفي كل سطر شعلة غرام وجنون
وأدار الشيخ وجهه عن ربيبه وسرح أبصاره على ميدان المعركة كأنه يفتش عن هاوية تنفتح فيه فيذهب إليها ببقية حنان كانت تختلج في قلبه لربيبه وبشبح غرام نورت أزهاره على غصن هرم ففاحت منا رائحة القبور
مزق الرسائل الواحدة تلو الأخرى على مهل وهو مصغ من أعماق روحه إلى هتفة ما كان يعلم أمنها أم من روح الوجود مصدرها: - ويل للعقوق، ويل للخائنة
وانتبه الشيخ كمن يستفيق من حلم وقال لهنري: - ابق هنا وقم مقامي، فلسوف أقود مخترقي الصفوف بنفسي
فصاح الفتى: - ولم تريد حرماني هذا الشرف، يا أبي؟
فأدار القائد رأسه ليخفي ما ارتسم عليه من الحنق والألم وقال بهدوء: - ذلك أمر تلقيته الآن
واختنق صوته، فاندفع نحو الخطوط وتبعته فرقة المستبسلين
وعلا دخان البارود وملأ الفضاء أزيز الرصاص، فلم يسمع أحد ما هتف به القائد الشيخ وهو يرتمي قتيلاً عن صهوة جواده.