لكنَّ قومي وإن كانوا ذوِي عدَدٍ ... ليسُوا من الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
يَجزونَ من ظُلِمِ أهلِ الظلمِ مَغفرِةَ ... ومن إساءةِ أهل السوُّء إحسانا
والبيت الثاني الذي قد يسرف في مدح من يتصف به الأخلاقيون المسيحيون والمسلمون ألحق بمن فيهم عاراً لا تمحي آثاره، وإن المنهج البَّين في معاملة الأعداء ليتضح على أتمه من الأبيات التالية:
إذا المرءُ أولاكَ الهوانَ فأولِهِ ... هوَاناً وإن كانتْ قَرِيباً أواصِرهُ
فانْ أنتَ لمْ تَقْدِرْ على أن تهينَهُ ... فَذرْهُ إلى اليَوْم الذي أنْتَ قادِرُه
وقارِبْ إذا مَا لمْ تَكنْ لكَ حِيلة ... وصَمِّمْ إذا أيقنْتَ أنَّك عَاقِرُهْ
وفوق كل هذا فان الدم يدعو الدم، وهذا الارغام يظل يلاحق ضمير العربي الوثني؛ وكان الانتقام عندهم ضرورة طبيعية إذا لم تجب حرمتهم النوم والشهية والصحة، كما كان ظمأ محرقاً لا يطفئ أواره أو يبل لهيبه سوى الدم، ومرضاً من أمراض الشرف يمكن تسميته بالجنون، وإن كان قليلا ما يمنع الرجل من أداء عمله في هدوء وتبصر. وكانوا يثأرون من القاتل إن أمكن أو أحد أقاربه وأبناء عشيرته. وإذا ذاك تستقر الأمور في نصابها ويندمل الجرح، إلا أن هناك حالات كان الانتقام فيها فاتحة قتال دموي دائم، تشتبك فيه القبيلة بأجمعها صغيرها وكبيرها، كما حدث ذلك في مقتل كليب الذي أدى إلى حرب زبون ظلت الرماح فيها مشتجرة زهاء أربعين عاما بين قبيلتي بكر وتغلب، ويقبل أقرب أقرباء القتيل الدية كفدية له وتدفع عادة جمالا وهي تعد مسكوكات الإقليم، وان قبولهم ذلك ليوحي إليهم دائماً أنهم فضلوا اللبن (النياق) وأثروه على الدم، وإن الشعور العربي الحق ليشرئب من خلال هذا البيت الذي يقول فيه الشاعر:
سأغسل عني العار بالسيف جالباً ... على قضاء الله ما كان جالبا
وكانوا يعتقدون أن روح القتيل تظل شاخصة على قبره وتسمى (الهامة) أو الصدى، تصيح:(اسقوني، اسقوني) حتى يؤخذ لها بالثأر ممن اعتدى على صاحبها، ولكن الأفكار الوثنية عن الانتقام كانت مرتبطة بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل ولم يكونوا يحسبون للحياة الأخرى قيمة كبرى أو لم يكونوا يعلقون عليها أية أهمية بجانب الذكريات المتأصلة عن الحب الأبوي، والشفقة البنوية وأخوة السلاح.