للتجنيد والتوظيف، وطمح إلى أن تكون مصر جزءاً من أوربا، في مبانيها ومعانيها، ورفاهتها وأنظمتها، ففتح ما أغلق من المدارس وزاد عليها، وأعاد البعوث إلى أوربا، وأقام نظارة المعارف على هذا الوضع المعروف وأنشأ لتغذيتها دار المعلمين، وابتغى الأسباب لتقليل الأمية، وتلمس الوسائل لتعميم الثقافة؛ وسار الأمر على هذا الطريق الواضح حتى دهانا الاحتلال الإنجليزي وكل شيء كان يتحفز للنهوض ويتوثب للرقي، فكأنما صببت ماء في نار، أو أقمت سداً في تيار!
كان التعليم في أواخر عهد إسماعيل واسع النطاق متعدد المناحي شعبي الغرض؛ فالمدارس موفورة العدد، واللغة العربية لسان المعلم ولغة الكتاب؛ فأخذ الإنجليز منذ اغتصبوا السلطان يقطعون أسباب هذه النهضة، ويسيرون بالتعليم إلى وجهة أخرى، فأغفلوا البعوث، وأغلقوا مدرسة الألسن، وأبطلوا المجانية، وأهملوا اللغة العربية، وجعلوا التعليم كله بالإنجليزية، وقصروه كما كان قبل إسماعيل على تخريج عمال للحكومة لا إعداد رجال للشعب؛ وصار اسم (دنلوب) علماً على نوع من التدريب الاستعماري الآلي تروض به النفوس المتمردة على الضراعة، والألسنة الآمرة على الطاعة، والعقول المستقلة على التبعية. فكان من عواقب هذه السياسة السفيهة أن اتسع التعليم وضاقت التربية، وكثر المتعلمون وقل العلم؛ فتبجحت الجهالة، وانتشرت البطالة، وفسد الأمر في الحكومة، وساء الحال في الأمة. ثم اشتعلت الحرب الكبرى في أنظمة دنلوب وأمثالها في كل دولة فأكلتها أكلاً ذريعاً، ثم خمدت فإذا بقاياها في كل مكان عصيان وطغيان وثورة، وإذا مصر تفلت من ربقة (جون بول) فتطلب الاستقلال، وإذا المعارف تخرج من وصاية (دنلوب) فتبلغ الرشد! ولكن الراشد لا يزال قريب عهد بالقصور، فهو يختلج ليستقيم، ويتذبذب ليعتدل، ويتجمع ليثب. فإذا احتفلنا اليوم بمرور هذا القرن على وزارة المعارف، فإنما نحتفل بعهدها السعيد الذي أقبل، وتطورها الجديد الذي لاح، ومستقبلها الواعد الذي أشرق.