أقدر على احتمال الحر والصبر عليه. ويظل ماضيا حتى يبلغ مضارب عشيرة أو قبيلة فيسقى ما شاء من اللبن ويمضي عنها إلى سواها وكلما نزل على قوم بروه وسروه وسقوه اللبن لأن مثله ممن ينحر لهم القوم. ثم يتفق أن يأتي قوما نحروا لضيف كريم فإذا قام الضيف وإخوانه عن الطعام، أقبل على (اللحم والأرز) من هم دونهم مقاما، فيقعد الرجل ويهبر من اللحم ما شاء ومن الأرز ما أحب. قال صديقي (وصدقني حين أقول لك إن هذا البدوي يأكل بعض أقات من اللحم وملء كيلة من الأرز. وهو يأكل كل هذا بعد أن لبث أياما - عشراً أو عشرين أو أكثر أو أقل - لا يجد من الطعام إلا اللبن وقليلا من التمر أحيانا فإذا أكل كل هذا اللحم والأرز وأثقل به معدته بعد ما يشبه الصيام أو فطام النفس كظها واحتاج إلى يوم كامل أو أيام للهضم.
فلم يسعني إلا أن أفكر في أمر هذا البدوي الذي يصبر على الصحراء وحياتها المرهقة ومطالبها المجهدة وعنائها الشديد ولا طعام له سوى اللبن والتمر أحياناً. إن هذا جلد لا أكاد أعرف له مثيلا. ومن كان يحتمل هذه الخاصة ولا يعجز مع ذلك عن مطالب الحياة التي لا رفق فيها من حرب وسعي وأسفار في الفيافي المهلكة فإن مثله يعدل ولاشك ألف جندي من جنود الدولة الرومانية المتخنثة، ولا عجب إذاً كان بضعة آلاف من هؤلاء البدو الأشداء الخشنين المعروقين قد عصفوا بمئات من الآلاف من جنود الدولة الرومانية التي كانت تقيد جنودها وتصفدهم لتمنعهم أن يهربوا ويفروا. .
وأحببت أن أعرف قيمة الحياة فيما يحس العربي - أعني البدوي - فلم أجد لها قيمة. وما عسى أن تكون قيمتها عند من لا يكاد يجد طعاماً أو ماء، ومن لا يكاد يأمن غدر الصحراء وعصف رياحها. أو لم نقرأ عن واقعة الخندق أن الرياح عصفت بجيش المشركين وقلبت قدورهم وهدمت خيامهم حتى يئس أبو سفيان ودعا قومه إلى الانكفاء إلى مكة؟. وحدثني غير واحد ممن لقيت في الحجاز أن المرء - بعد المعركة - يجيء إلى الواحد من هؤلاء البدو فيسأله عن صاحب له أو قريب أو ابن ماذا فعل الله به، ويتفق أن يكون قد قتل في المعركة، فلا يزيد على أن يقول لك (بح) يعني (ذبح) ولكنه يأكل الذال في النطق فلا تسمع منه إلا (بح). . ثم لا دمع ولا أسف ولا حسرة ولا لهفة ولا جزع ولا غير ذلك مما ألفنا أن نقرن به الموت. فكأن حياة البدوي الشاقة تفقدها قيمتها وتسلب الموت لذعه وتفتر