مقر دولة مترامية الأطراف عظيمة الرقعة. نعم تستطيع بسهولة أن تحتفظ باستقلالها وعزتها ولكنها لا تقوى على حكم أقطار أخرى بعيدة كالشام والعراق ومصر. وقد بقي الحجاز مقر الدولة العربية في صدر الإسلام وعلى عهد الخلفاء الراشدين ولكن هذا كان زمن التوسع والامتداد، لا زمن الاستقرار والنظام الدائم. فلما انتهت الفتوح أو معظمها وأهمها، وصارت الفتوح بعد ذلك عبارة عن توسع طبيعي لدولة مستقرة تغريها ما أنست من نفسها من القوة والبأس والشوكة بالتوسع والزحف، وتدفعها مقتضيات المحافظة على ما في اليد إلى هذا الزحف، صارت جزيرة العرب لا تصلح أن تكون هي مركز الدولة. أما في زمن أبي بكر فقد كانت الحاجة تدعو إلى توطيد الأمر في قلب الجزيرة أولا قبل إمكان التفكير في غيرها. وأما في زمن عمر فقد كانت الجيوش تزحف فلا يعقل أن تنقل العاصمة قبل أن يستتب الأمر. نعم فتحت البلاد في عهده، ولكن الفتح يستدعي التمكين والتوطيد أولا. ثم إن عمر كان يشق عليه أن يخرج من الجزيرة، وكانت صلته بالنبي عليه الصلاة والسلام أوثق من أن تسمح له بترك الجزيرة، حتى لو كان كل شيء قد استقر وانتظم. ولم يكن قد عاش في الشام أو مصر أو العراق حتى تبدو له مزية التحول بقاعدة الدولة إلى جهة أخرى. وأما زمن علي وعثمان فقد كان زمن اضطراب ونزاع وانقسام، وكان هذا حسبهما شاغلا عن إقامة مركز الدولة إقامة ثابتة نهائية في مكان آخر غير الحجاز. ولما انتهى النزاع بفوز معاوية كان هذا قد أدرك مزية البلاد الأخرى وعرف فضلها كمركز الملك ومقر للدولة التي شادها بفضل ما تولى منها في الفترة السابقة.
وبلاء جزيرة العرب أنها مجدية قاحلة، فإذا امتدت لها رقعة ملك أسرع أهلها إلى التحول عنها إلى غيرها، لأن الحياة في غيرها تكون أرغد والعيش أطيب. والمرء يحن إلى الراحة والدعة مهما بلغ من اعتياده الخشونة والمشقة والشظف، وفرقٌ بين هجرة تدعو إليها كثرة السكان، وهجرة تدعو إليها الفاقة والمحل. ولابد لبلاد تريد أن تكون مقر دولة كبيرة أن تكون هي ذات موارد كافية إلى حد ما. ولهذا لم يكد العرب يفتحون الأقطار المجاورة حتى كثرت هجرتهم إليها طلباً للرغد والراحة. ومن ألف التنقل وكثرة الرحيل من ناحية إلى أخرى انتجاعاً للرزق لم تشق عليه الهجرة إلى بلاد بعيدة لأنه لم يزل أبداً مهاجراً في قلب بلاده. ومادامت الدولة واحدة في الحجاز ومصر والشام والعراق فأخلق