للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قبل، عديمة الوحدة مختلطة الأجزاء، تثب من قريب إلى بعيد ومن نسيب إلى مديح، ومن مديح للغير إلى فخر بالنفس ومن فخر إلى شكوى.

ولم يتخلص الأدب العربي من شبهات الصناعة المادي قط: إذ ظل اكثر الشعراء والكتاب يخدمون الأمراء ويتوخون مواقع رضاهم. وليس يخرج الأدب من حيز الصنعة إلى عالم الفن الحر مادام ذا غرض خارج نفسه. وذلك ما لم ينكره أدباء العربية أنفسهم فظلوا يسمون الأدب صنعة أو حرفة أو آلة، وكان النقاد يوازنون بينها وبين صناعة المغنين، ويقول ابن رشيق في تعليقه على حكاية شاعر مدح علوياً ثائراً فدفنه المنصور حياً: إن ذلك الشاعر قد جنت عليه حماقته، إذ ما للشاعر وللزج بنفسه في أمثال تلك المآزق وإنما هو (طالب فضل)؟

واحتفى أدباء العربية بالألفاظ احتفاء متزايداً: فنشأ السجع والطباق والجناس والتورية وما إليها في الشعر والنثر معا، حتى بدأ اللفظ منافسا للمعنى مزاحما له على انتباه القارئ وفهمه، بل صارت له في النهاية المكانة الأولى، وتضاءل المعنى بين يديه واختفى، وأصبحت همة الأدباء موجهة لا إلى الغوص على حقائق الوجود وبواطن الشعور. بل إلى اقتناص شوارد الكلم وبارع النكات اللفظية، فعيسى بي هشام مثلا يقول انه كان يطوف البلدان (وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها) وعيسى بن هشام أيضاً يعيب على الجاحظ انه (قليل الاستعارات قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟)

وإنما قصر بالأدب العربي عن غايات الفن المطلق، ما قيد به من اتصال بالأمراء، وما أرهق به من تقليد للقديم: أدخلت الأولى فيه التكلف والصنعة وأبقت فيه غرضا خارجا عن نفسه وصرفت الثانية همه إلى اللفظ البليغ والعبارة الطنانة، التي تدل على بصر باللغة وتمكن من آثار فحولها المتقدمين؛ ويتجلى الفرق بين مدى الأدب الإنجليزي من الفنية الخالصة، ومدى الأدب العربي منها، من موازنة حياة الفن الخالص والتأمل الدائب، والمعالجة المستمرة لأشكال الأدب ومواضيعه، والطرق المتكرر لمذاهبه ومناحيه، التي كان يحياها وردزورث وشلي وتنيسون مثلا، وبين حياة البحتري والطائي والمتنبي المتصلة أوثق اتصال بالأمراء ومنادمتهم وتملقهم، كان الأولون كأنهم كهنة الفن المنقطعون إلى آلهته

<<  <  ج:
ص:  >  >>