الأفلاطونية في أجلى مظهر. ولكن عبثاً حاول ربط هذين الجوهرين أو إيجاد علاقة بينهما. ثم طمع أتباعه في أن يتلافوا هذا النقص فلم يكونوا أعظم منه خطأ. وربما كانت فكرة التناسق الأزلي التي قال بها ليبتز هي أشهر محاولة في هذا الباب، فهو يعتقد أن الجسم والنفس نسقا أزلاً بحيث يتفقان وإن صار كل منهما في طريق خاصة؛ وخضوع الأول لقوانين السببية لا يحول دونه، والارتباط بالأخيرة التي تخضع لقوانين الفانية. وما أشبههما بساعتين محكمتي الصنع تلتقيان في قياس الزمن، وإن كانتا تبينانه بأشكال مختلفة. تصوير جميل ومهارة في التوفيق، شأن ليبتز في كل فلسته؛ غير أنه في الواقع توفيق صويري وربط خيالي، فإن مؤداه أن لا صلة بين الجسم والنفس، أو أن الصلة بينهما أنهما لا يتعارضان ولا يتعاكسان.
لم يغفل ابن سينا هذه المشكلة ولم يتردد في حلها وتوضيحها، وكيف يغفلها وهو من أنصار الروحية والثنائية؟ وقد سبق لنا أن لخصنا البراهين العديدة التي يستدل بها على جوهرية النفس وروحانيتها. وفي رأيه أن الجسم والنفس متصلان اتصالاً وثيقاً ومتعاونان دون انقطاع. فلولا النفس ما كان الجسم، فإنها مصدر حياته والمدبرة لأمره والمنظمة لقواه. ولولا الجسم ما كانت النفس، فإن تهيؤه لقبولها شرط لوجودها، وتخصصه بها مبدأ وحدتها واستقلالها؛ ولا يمكن أن توجد نفس إلا أن وجدت المادة الجسمية المعدة لها! فهي منذ نشأتها تواقة إلى الجسم ومتعلقة به ومخلوقة لأجله. وفي أدائها لمهامها الكثيرة تستخدمه وتعول عليه. ويكفي أن نشير إلى التفكير الذي هو عملها الخاص فإنه لا يتم إلا أن أرقدتها الحواس بآثارها. وواضح أن العقلي ذو دخل كبير في الجسمي، فرب فكرة هيجت الجسم وأحدثت فيه انفعالات كثيرة، وللجسمي أيضاً أثر على العقلي، فقد تنتج الحركة فكرة ويبعث اعتدال المزاج على الغبطة والسرور. يقول ابن سينا:(انظر إنك إذا استشعرت جانب الله وفكرته في جبروته كيف يقشعر جلدك ويقف شعرك، وهذه الانفعالات والملكات قد تكون أقوى وقد تكون أضعف، ولولا هذه الهيئات ما كانت نفس بعض الناس بحسب العادة أسرع إلى التهتك أو الاستشاطة غضباً من نفس بعض)
فهناك علاقة إذن بين الجسم والنفس وتأثير متبادل؛ وهذا قدر يتفق عليه كل أنصار المذهب الروحي ولا يعز عليهم إثباته، ولكن المشكلة هي: كيف يتم هذا التأثير وكيف