كتب بحثاً صغيراً فرق فيه بين النفس والروح فبينما الأولى في رأيه جوهر روحي بسيط غير قابل للفناء إذا بالثانية جسم لطيف يشرف على أعمالنا العضوية والعقلية، وإذا ما توقف عن الحركة كان الموت. فالروح إذن أداة النفس وبواسطتها يتحرك الجسم ويعد للإدراك، وبذا استطاع قسطاً أن يوفق بين الأبنيما التي يعول عليها الأطباء والنفس التي ينادي بها الفلاسفة، وقد سار على سنته من جاء بعده من مفكري الإسلام.
وأما الصلة بين القلب والدماغ وأثرهما في الظواهر النفسية فتلك نقطة خلاف بين أرسطو وجالينوس. ففي حين أن الفيلسوف يرى أن القلب هو مركز القوى النفسية الرئيسية نجد الطبيب يصعد بذلك إلى الرأس ويعتبره المهيمن على كل الحياة العقلية. وابن سينا، وإن كانت منزلته الطبية لا تقل عن درجته الفلسفية، لا يتردد في أن ينتصر لأرسطو. ويصرح، على أي أساس لا أدري، أن الفلاسفة هم أصحاب الرأي والذين يستطيعون الفصل في مثل هذه المسائل، ومع هذا فإنه لا ينكر ما للدماغ وأعصابه من دخل في الحركة والإحساس. ومهما يكن فلعل هذه الآراء هي منبع تعريف العقل المشهور الذي ردده المتأخرون من مؤلفي العرب، فهم يكادون يجمعون على أنه قوة أودعها الله في القلب ولها شعاع متصل بالدماغ.
لا نظن أنا في حاجة إلى مناقشة هذه الفسيولوجيا البائدة فإن كشف الدورة الدموية قد قضى على فكرة الأبنيما وما يتفرع عنها، ودراسة الجهاز العصبي الحديثة لا تدع مجالاً لتلك الآراء التي كانت تعد القلب المركز الرئيسي للحياة النفسية. والنظرية القائلة بتوزيع المخ إلى مناطق نفوذ مستقلة تقوم كل واحدة منها بعمل خاص، وإن كانت قد صادفت أنصاراً عديدين في القرن التاسع عشر، لا تفسر الظواهر العقلية تفسيراً مقنعاً. على أن ابن سينا كان يمزج الفسيولوجيا بعلم النفس النظري، ويخلط المادي بالروحي دون أن يوضح كيف يتفاعلان؛ والصعوبة كل الصعوبة في توضيح هذا التفاعل. فهو إذن لم يوفق لحل مشكلة الصلة بن النفس والجسم ولم يأتنا فيها بجديد؛ وكل ما عمله هو أن ضم أفكاراً أرسطية إلى أخرى جالونيسية على الرغم مما بينهما من تنافر أو تعارض.